قصة
حياة مسلم
الدكتور/ عصمت سيف الدولة
1ـ
حينما يدور الحديث المرسل عما جاء به الإسلام من شرائع يلتفت المتحدثون الى نماذج
العقوبات التى وردت فى القرآن جزاء على خرق قواعد الحدود. يلفت اليها أن بعضها مثل
الجلد والرجم وقطع اليد، لم تعد اليوم من بين العقوبات التى تفرضها القوانين الوضعية.
لسنا نريد أن نخوض فى هذا الان لانه يطول، ثم يتوقف على أية نظرية تقوم مشروعية الجزاء.
وهى نظريات متعددة. يكفى أن ننبه الى أن نظرية الجزاء فى الاسلام لا تقوم على أساس
الانتقام قال تعالى:" ولكم فى القصاص حياة "( البقرة : 179 ) ( الاحتفاظ
للجرم بجزاء شخصى فى الاخرة ، واستبدال الدية بالعقوبة والتوبة والعفو ) بل هى ،
مثل كل أحكام الاسلام، قائمة على ما يحقق مصالح البشر، أو حماية المصالح كما يقال
فى فقه القانون الجزائى، وذلك بالزجر الكافى والمناسب اجتماعيا للمحافظة على قوة
الالزام فى القواعد الآمرة أو الناهية وهى " الحدود " أى الفوارق بين
الحلال والحرام، وان كان قد جرى اطلاق
كلمة الحدود مجازا على العقوبات. و اذا كان "لا اجتهاد فى
الحدود"، فليس لأحد أن يبيح ما هو محرم، فان تقدير الجزاء الكافى والمناسب
على خرق الحدود قابل للاجتهاد، وفيما يؤكد نفاذ القواعد ويحمى المصالح فى كل
الظروف المتغيرة. من هنا فليس دقيقا فيما نرى، أن يقال ان عمر بن الخطاب قد عطل حد
السرقة عام المجاعة. فما كان له أو لغيره أن يبيح ما حرم الله. ولكنه رأى فى ظروف
معينة ان جزاء قطع اليد لا يؤدى غايته فى الزجر وحماية المال. ويدخل فى هذا كل ما
اجتهد الأئمة فى إشتراطه للمسؤولية عن الجرائم فهى شروط متعلقة بايقاع الجزاء وليس
بشرعية الفعل. هذا يكفى الآن حتى لا يغيب عن الانتباه أن الشرائع والقواعد و
الآداب التى جاء بها الإسلام ليست مقصورة على الجرائم والمجرمين. بل هى تنظيم
لعلاقات الناس وهم يمارسون حياتهم العادية السوية، فتربط بينهم وتحيلهم الى مجتمع إسلامي.
لنأخذ مثلا من حياة مسلم
سوىّ.
2ـ
كان صاحبنا يتبع ما يهديه اليه "عقله ومصلحته وهواه
وشهوته" ثم شهد بألا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فأصبح مسلما:
له على المسلمين حقوق المسلم وعليه للمسلمين واجبات المسلم. انه منذئذ لا يستطيع
أن يتبع ما يهديه اليه "عقله ومصلحته وهواه وشهوته" وانما عليه أن يتبع
"الشرائع والقواعد والآداب" التى جاء بها الاسلام. فان لم يفعل رده
المسلمون الى ما يتفق مع الاسلام وأوقعوا به الجزاء الذى يردع غيره.
كيف؟
هداه"عقله ومصلحته وهواه وشهوته"
الى أن "يعاشر" امرأة معينة وارتضت هى معاشرته على هدى عقلها ومصلحتها
وهواها وشهوتها. لو تركا لما اهتديا اليه لتعاشرا. فيقو ل الاسلام لهما: لا.
تعاشرا زواجا وليس سفاحا."محصنين غير مسافحين"(النساء: 24). فيقبلان الزواج.
ولكن قبل ان يشرعا فيه يقدم لهم الإسلام قائمة بنساء موصوفات ليرى صاحبنا ما اذا
كانت المرأة التى اختارها من بينهن أم لا. فان كانت من بينهن فلا زواج "ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف، انه كان فاحشة ومقتا، وساء سبيلا.
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الاخت
وأمهاتكم اللاتى ارضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى
حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم،
وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف، ان الله
كان غفورا رحيما. والمحصنات من النساء"(النساء: 22-24).
ولقد يتحقق صاحبنا
من أن المرأة التى اختارها وارتضته زوجا ليست من قائمة المحرمات، لانه هو نفسه كان
قد تزوجها هى نفسها من قبل وطلقها ثلاث طلقات. وقد هداه "عقله ومصلحته وهواه
وشهوته" الى ان يتزوجها مرة اخرى وقبلت هي. الاسلام يقول: لا. "فلا تحل
له من بعد حتى تنكح زوجا غيره "(البقرة : 230) . فلا يتزوجها صاحبنا بصرف
النظر عن عقله ومصلحته وهواه وشهوته.
ولقد يضيق صاحبنا
بالانتظار فيختار امرأة اخرى وترتضيه هى زوجا بعد أن يعرف من أمرها أنها كانت الى
عهد قريب زوجا لغيره. فيتعجل الزواج فيقول الاسلام لا. لا تتعجل. ان كانت مطلقة
فعليك أن تتأكد أولا من أنها غير حامل من زوجها السابق، ثم تتأكد ثانيا من انه
انقضت على طلاقها ثلاثة اشهر وتعد الايام عدا "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن " (البقرة: 228). فتأخذ
صاحبنا الفرحة اذ أن من اختارها لم تكن مطلقة وإنما توفى عنها زوجها منذ أربعة
أشهر ويهم بالزواج فيقول الاسلام: لا. ليس قبل عشرة أيام أخر. “والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا "(البقرة: 234).
وينتظر صاحبنا
عشرة أيام لا تنقص يوما واحدا. ثم قد يهم بها وتهم به، فيقول لهما الإسلام: ليس
قبل العقد، لان الزواج ليس فعلا بل هو عقد وميثاق غليظ:"وأخذن منكم ميثاقا
غليظا" (النساء: 21). وقد يسر لصاحبنا:"عقله ومصلحته وهواه وشهوته"
بتساؤل: وما الفرق؟ ان الفرق الان أن العقد لا ينعقد الا برضاكما. نحن راضيان. لا.
لابد من أن يشهر العقد ليعلم الناس انكما راضيان. ثم ان عليك أن تدفع لها مهرا."وآتوهن
أجورهن بالمعروف"( النساء: 25) كم ؟ لا يهم. انه رمز الالتزام وليس ثمن بضاعة
تشترى ثم ان العقد يلزمك انت بالنفقة:"الرجال قوامون على النساء بما فضل الله
بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم "( النساء: 34 ) من مالك انت وليس من
مالها هى :" فلا تأخذوا منه شيئا " ( النساء: 20 ) الا اذا رضيت هى "
فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا "( النساء : 4 ) ثم انه قد
تكون بينكما شروط غير ممنوعة. مثل؟ مثل أن تحتفظ هى لنفسها بحق فسخ الزواج. أما
الفروق الأخرى فستعرفها فى مستقبل حياتكما الزوجية ان شاء الله.
وينعقد العقد
ويفرح العروسان ويشهران زواجهما بأن يدعوا الأهل والأصحاب إلى وليمة عامرة
بكل طعام وشراب اهتديا إلى انه يسر
المدعوين "عقلا ومصلحة وهوى وشهوة" فلا يتركهما الإسلام الى ما اهتديا. اذ
يراهما يكادان يسرفان إنفاقا فيأمرهما بعدم التبذير: "إن المبذرين كانوا
إخوان الشياطين" (الاسراء: 27)؛ او يكادان يقتران فينبههما الإسلام الى ان منع
التبذير لا يعنى إباحة التقتير:"والذين اذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان
بين ذلك قواما"(الفرقان: 67) " ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها
كل البسط"(الإسراء: 29). فيهتديان ويولمان. ويراجع الإسلام قائمة الطعام
والشراب خشية أن يكون"العقل والمصلحة والهوى والشهوة" قد دست فى الشراب
خمرا (او مخدرات)." يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"(المائدة: 90) أو دست فى الطعام مما حرم على المسلمين:"
حرمت عليكم الميته والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع الا ما ذكيتم وما ذبح على النصب " (المائدة:
3).
***
3ـ
وتجرى الحياة بالزوجين على قاعدة المساواة بينهما:" ولهن مثل الذى عليهن
بالمعروف " (البقرة: 228). والتعاون على ما فيه حفظ المودة والرحمة بينهما
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة
ورحمة"(الروم: 21) "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"(البقرة: 187)،
بدون عدوان " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"(المائدة:
2). ويترك لهما بعد ذلك أن يدبرا حياتهما معا على ما يرضيهما بدون شذوذ عما تجرى
به أفضل التقاليد فى مجتمعهم." وعاشروهن بالمعروف"(النساء: 19). ويحذر صاحبنا من نزوات "هواه وشهوته"
" فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " (النساء:
19). فان اختلفا حتى كادا يفترقان فعلى أهلهما التدخل لإنهاء الخلف صلحا:"
وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق
الله بينهما، ان الله كان عليما خبيرا"(النساء: 35)؛ "وان امرأة خافت من
بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير"(النساء
: 128 ) . ويحذر الإسلام الزوجة خاصة من أن تبالغ فيما تحمل زوجها من نفقات نزقا
أو تظاهرا بثراء غير متحقق، اذ ليس عليه الا:" رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف
نفس الا وسعها"(البقرة: 233). ثم يأمرهما معا بألا يصلا فيما ينفقانه الى حد التبذير:"
ان المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا "(الإسراء: 27).
وفى هذه الحدود:" لينفق ذو سعة من سعته"(الطلاق: 7).
***
4ـ
فإذا لم يستطيعا بعد كل هذا أن يعيشا معا فلا إكراه فى الزواج كما انه لا إكراه فى
الدين." فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"(البقرة :229). ويأمر الإسلام
بالثقة فى صدق أسباب الافتراق اذا كانت الزوجة هى التى أرادته فيكون الفراق بائنا.
ولكنه يحتاط ضد نزوات هوى الرجل فيأمر بأن " الطلاق مرتان"(البقرة: 229)
فإذا أعاد اليه مرة ثالثة " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " (البقرة:
230). وللزوجة دائما حق إنهاء العلاقة الزوجية بالخلع، أو اذا احتفظت به فى العقد،
أو اذا كان استمرار الزواج يسبب لها ضررا:" فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف،
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"(البقرة: 231).
***
5
ـ ولكن صاحبنا لا ينفصل عن زوجته لأنه لا يتبع مجرد ما هداه اليه "عقله
ومصلحته وهواه وشهوته" حينما يتعارض مع الشرائع والقواعد والآداب التى جاء
بها الإسلام منظمة للزواج وفيما بين الزوجين، بل يستمر وينجب بنين وبنات يتأدبون
بآداب الإسلام التى قرنت بين الايمان بالله وعدم الشرك به وبين الاحسان بالوالدين:”
لا تعبدون الا الله وبالوالدين احسانا"(البقرة: 83). " واعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا"(النساء: 36)." قل تعالوا أتل ما حرم
ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا"(الأنعام: 151)." وقضى
ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين احسانا، اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو
كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا " (الإسراء: 23و 24). ولكن فى حدود
الإيمان بالله "ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بى ما ليس لك
به علم فلا تطعهما"(العنكبوت: 8).
ولقد تشب لصاحبنا ابنة ويجئ اليه من يخطبها، فتقبل،
ولكنه حين يتشاور مع زوجته يتفقان على إرجاء الزواج. فيقول هو حتى تكمل تعليمها،
وتقول هي: ولتبقى تساعدنى فى المنزل فى غير أوقات الدراسة. ويتبعان ما هداهما اليه
عقلهما ومصلحتهما، وتغيب عنهما نواميس الحياة التى يحجبها الحياء، فيردهما الاسلام
الى ما غاب عنهما." ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن تحصنا." (النور: 33) فيفهم الزوجان ما أراد الله أن
ينبه اليه. فيأذن الوالد وينعقد العقد ويبدأ تكوين اسرة جديدة طبقا لذات الشرائع
والقواعد والآداب التى جاء بها الاسلام وحكمت حياة أسرة صاحبنا.
***
6ـ
غير أنه ما تكاد الأسرة الجديدة تتكون حتى ينهدم ركن أسرة سابقة. فقد يجئ الخبر
بوفاة والد صاحبنا، ويحزن صاحبنا هو وأقاربه ثم يجتمعون ليروا ماذا يفعلون بما ترك
المتوفى من مال. ويكادون يقتسمونه على ما تهديهم اليه عقولهم ومصالحهم وأهواؤهم،
ويدعى كل واحد بأنه قد أبر المتوفى أكثر من غيره، أو أن المتوفى كان يبره أكثر من الآخرين،
ويحتج بعضهم بأنهم أشد حاجة الى المال من غيرهم، ويتساءل أحد الحاضرين عما يكون من
أمر الصغير اليتيم ابن المتوفى ويكادون يتنازعون. فلا يتركهم الإسلام لعقولهم
ومصالحهم وأهوائهم بل يقول لهم: أولا: لا يرث أحدكم شيئا قبل أن يستوفى غير
الوارثين حقوقهم. اذ لا ميراث الا " من بعد وصية يوصى بها أو دين "
(النساء : 12 ) ثانيا : أما بعد ذلك فدعكم الان من عقولكم ومصالحكم وأهوائكم التى
لا تتفق أبدا واقتسموا المال الموروث طبقا لما يأتى :" يوصيكم الله فى
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وان كانت
واحدة فلها النصف ، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد ، فان لم
يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، فان كان له اخوة فلأمه السدس ، من بعد وصية
يوصى بها أو دين ، آباؤكم وأبناؤكم ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، فريضة من الله
، إن الله كان عليما حكيما "( النساء : 11 )." ولكم نصف ما ترك أزواجكم
ان لم يكن لهن ولد، فان كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن، من بعد وصية يوصين بها
أو دين، ولهن الربع مما تركتم ان لم يكن لكم ولد، فان كان لكم ولد فلهن الثمن مما
تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين، وان كان رجل يورث كلالة، أو امرأة وله أخ أو
أخت فلكل واحد منهما السدس، فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء فى الثلث، من بعد
وصية يوصى بها أو دين غير مضار، وصية من الله، والله عليم حليم"(النساء: 12).
"يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة ان امروء هلك ليس له ولد وله اخت فلها
نصف ما ترك، وهو يرثها ان لم يكن لها ولد، فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك،
وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين، يبين الله لكم أن تضلوا،
والله بكل شئ عليم "(النساء: 176) فيأخذ كل صاحب حق حقه. يمر ذلك الحدث بسلام
دون ان يكون سببا فى الخلف أو الفرقة أو النزاع بين الأقرباء. فحتى الذين لا
يصيبهم من مال المتوفى شيئا لا يتهمون من يصيبون منه بأن قد ظلموهم. ذلك لأن شرائع
الاسلام لا يضعها أحد منهم طبقا لما يهديه اليه " عقله ومصلحته وهواه " ولا
يفرضها على غيره. ولو يتركون لعقولهم ومصالحهم وأهوائهم يتهم بعضهم بعضا. ولو
يستبدلون بهذا النظام نظاما موضوعا يضعه الأقوى ويفرضه على الآخرين، قد يبدلون فيه
من حين الى حين تبعا لتقلب مصالحهم وأهوائهم وقوتهم.
***
7ـ
ثم ان الأقرباء الذين لا يصيبون من التركة ميراثا لا يحرمون منها إن كانوا محتاجين؛
لا هم ولا أولئك الذين لا يخفى عليهم ما راب فى ثروة صاحبنا من بعد الميراث بحكم الجيرة.
فصاحبنا مسلم وقد أمر بما أمر به المسلمون." واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
وبالوالدين احسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب
والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم، ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا.
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا
للكافرين عذابا مهينا " (النساء: 36، 37) ذلك لأن فى مال المسلم القادر حقا
لمن حرم منه وسأله، حتى لو لم يكن من ذوي القربى" وفى أموالهم حق للسائل
والمحروم " (الذاريات: 19). على أى حال فان ذوي القربى الذين لا يصيبون شيئا
من التركة ميراثا ويحضرون قسمتها فيما بين الورثة يصيبون منها ما يرضيهم قل أو كثر،
نفاذا للشرائع والقواعد والآداب التى جاء بها الاسلام." للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر،
نصيبا مفروضا. واذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه
وقولوا لهم قولا معروفا"(النساء: 7، 8).
***
8ـ
ويخرج كل هذا من نصيب صاحبنا. أما نصيب أخيه القاصر اليتيم الذي وضع تحت وصايته
فقد حرمت عليه الشرائع والقواعد والآداب التى جاء بها الاسلام المساس به قل أو كثر.
بل عليه أن يديره لحساب صاحبه أحسن ما تكون الادارة وأن يرده اليه حينما يبلغ
الرشد كاملا غير منقوص. " ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده،
وأوفوا بالعهد، ان العهد كان مسؤولا"(الاسراء: 34)، بعد أن يقدم اليه حسابا
عن كيف تسلم المال، وكيف أداره وكيف تطور زيادة أو نقصا بين يديه وما اذا كان قد
اقتطع منه اجر ادارة أم لا.ذلك لأن شرائع وقواعد وآداب الاسلام لا تكافئ مدير مال
اليتيم بأجر الا أن يكون فقيرا." وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان
آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا، ومن
كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، فاذا دفعتم اليهم اموالهم
فأشهدوا عليهم، وكفى بالله حسيبا". (النساء: 6)
***
9ـ
ذلك ما يكن من أمر صاحبنا فى علاقاته بزوجه وبنيه وأقاربه وما يتداول فيما بينهم
من مال، مهرا أو ميراثا أو وصية أو إحسانا، أى علاقاته بأفراد أسرته والاقربين منه
قرابة عصب أو قرابة رحم أو قرابة جيرة.
أما العلاقة مع الاخرين،
مع الناس، فهى علاقة عقود (اتفاقات ارادية بين الراشدين بدون اكراه أوغش). ما هو
محل أو موضوع أو مضمون تلك العقود؟ يختلف الامر فى الزمان والمكان، فلا نستطيع ان
نتابع علاقات صاحبنا مع غيره الا أن نعرف فى أى مجتمع يعيش وفى أى زمان كان مجتمعه
ولما كانت الشرائع والقواعد والآداب التى جاء بها الاسلام غير مقصورة على مجتمع
معين أو زمان معين فانها لم تأت مفصلة الأحكام، ولكنها ـ مع ذلك ـ لم تترك الناس
لما تهديهم اليه عقولهم ومصالحهم واهواؤهم وشهواتهم، بل فرضت قواعد من النظام
العام يكون على صاحبنا أن يلتزمها أيً كان.
فمصدر الرزق هو الطبيعة: الأرض والسماء
والبحار والانعام .. الخ:" هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا"(البقرة :
29 ) . " ألم تروا أن الله سخر لكم مافى السماوات وما فى الارض " (لقمان:
20). " يا أيها الذين آمنوا كلوا مما فى الارض حلالا طيبا" (البقرة: 168).
" لقد مكناكم فى الارض وجعلنا لكم فيها معايش"(الاعراف: 10) .. الخ.
أما سبب الرزق فهو وحده العمل." وان ليس
للانسان الا ما سعى"(النجم: 39). " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون"(التوبة: 105). ولقد حرم الاسلام ثلاثة أنواع من الكسب تأتى جميعا
بدون أن يخالطها عمل. الاول الربا:" أحل الله البيع وحرم الربا"(البقرة:
275). والثانى المقامرة." يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"(المائدة: 90) والثالث المال غير المستحق بصرف
النظر عن سبب عدم استحقاقه." ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"(البقرة:
188). أما الميراث فهو فائض تراكم عمل المتوفى بعد وفاته يؤول الى من كان يعلم أنه
آيل إليهم فكان ـ على وجه ـ يعمل لهم.
على صاحبنا
بعد ذلك أن يرتزق بعمله ما يشاء. عمله الحالي، أو الناتج المتراكم من عمله السابق
وأن يتملكه. ولما لم يكن صاحبنا ولا غيره بقادر على أن ينتج وحده كل ما يحتاج الي استهلاكه،
فانه يتبادل الخدمات والمنتجات مع غيره من العاملين والمنتجين. وكل تبادل عقد. وكل
وعد بالتبادل عقد. وكل تبرع عقد. وكل فسخ للعقد هو عقد. وكل وفاء بعقد هو عقد.
وهكذا يكتشف صاحبنا أن حياته كلها بكل ما فيها من علاقات مع الآخرين هى سلسلة
لانهائية من العقود المتجددة أبدا وأنها ليست الا حلقة من سلسلة العلاقات
الاجتماعية التى تشد الناس بعضهم الى بعض حتى تحيلهم مجتمعا بعد أن كانوا أفرادا،
وتقيد ـ فى الوقت ذاته ـ بعضهم لحساب بعض، فتحيل علاقاتهم نظاما بعد أن كانت أهواء.
وتجعل حياة كل واحد منهم متوقفة على حياة الآخرين، فتحول دون " الفردية
" التى تريد أن تخلى بين الفرد وبين ما يهديه اليه " عقله ومصلحته
وأهواؤه ونزواته ".
يتذكر صاحبنا
كل هذا كلما قضم لقمة من خبز حصل عليه وفاء بعقد؛ من تاجر أعد له مكانا للبيع وفاء
بعقد؛ حمله اليه حامل وفاء بعقد؛ بعد أن خبزه خباز وفاء بعقد؛ وعجنه عجان وفاء بعقد؛
وطحنه طحان وفاء بعقد؛ فى مطحنة يعمل فيها كل عامل وفاء بعقد، ويديرها مدير وفاء بعقد،
ويحصل أجور الطحن فيها صراف بعقد، ويحمل الحب اليها ناقل وفاء بعقد، وزرعه زارع
وفاء بعقد، وحرسه حارس وفاء بعقد، فى أرض استغلها وفاء بعقد، ليحصل من وراء ذلك
على مال يوفى منه عقد شراء لقمة من خبز يقضمها. وما كان للاول أو للأخير أن يقضم
لقمة من خبز حين يجوع، أو يشرب شربة ماء حين يعطش، أو يلبس، أو يسكن، او يطبب أو يداوى،
أو يعلم أو يتعلم، أو يخترع أو يصنع، أو يستهلك، أو حتى ينام آمنا، لو لم يكن مئات
الالوف من الناس الذين لا يعرفهم كافة قد أوفوا بعقود قد عقدوها. فتكتفى الشرائع
والقواعد والاداب التى جاء بها الاسلام بأن تأمر بالمحافظة على سلامة هذه السلسلة
اللانهائية من العلاقات الاجتماعية التى تنظم الافراد فتحيلهم مجتمعا منظما فتأمر
المؤمنين جميعا أمرا:" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"(المائدة :1).
وتزيد فتأمر بما يحول دون اعاقة الوفاء من نسيان أو مماطلة أو جشع فتأمر بالكتابة
فى الديون المؤجلة:" اذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه"(البقرة: 282).
وتأمر بالرهن الحيازى فى المنقول لضمان الوفاء فى حالة غياب المدين:" وان
كنتم على سفر ولم تجدوا كتبا فرهان مقبوضة"(البقرة: 283) وتأمر بأن يكون
البيع مشهودا:" وأشهدوا اذا تبايعتم"(البقرة: 282).
***
10-
نكتفي بما تقدم مثلا من حياة مسلم، تجرى هادئة بدون أن يتعرض خلالها للعقوبات الجزائية.
ولو شئنا لتتبعنا حتى يقضى توجهه مجموعة كثيفة من الشرائع والقواعد والآداب التى
جاء بها الاسلام. ولكن هذا يطول. ولقد رأينا كيف أن كل ماضربناه مثلا من الشرائع
والقواعد والاداب التى جاء بها الاسلام قد جاءت فى صيغ آمره أو ناهية أو مكملة.
نعنى بالمكملة ما تنظم أمرا اذا وقع بارادة صاحبه، ولكنها تترك أمر وقوعه أو عدم
وقوعه لاختيار المسلمين. كما رأينا أن كل تلك الشرائع والقواعد والاداب واردة على
علاقة اجتماعية، ثنائية أو جماعية، وبالتالى فان أمر التزامها أو اهدارها ليس
متروكا لاختيار أحد اطرافها، فردا كان أو جماعة على ماتهديهم اليه " عقولهم
ومصالحهم وأهواؤهم ونزعاتهم ". كلا. ان يلتزموها يستوقفهم شركاؤهم فيما يتعلق
بهم من مصالح؛ وان يهدروها يردهم شركاؤهم فيها الى التزامها ولو قتالا. فتنبثق
" السلطة العامة " كضرورة اجتماعية لحراسة النظام وفرض نفاذ قواعده ولو بالإكراه.
من هنا نعرف ان التكليف الصريح باقامة سلطة عامة تزيد غير بليغ مادام الامر قد جاء
بأسبابها الموضوعية.
أما كيف تقوم هذه السلطة العامة،
فيتوقف جوابه على ماهية كل مجتمع وظروف الناس فيه المختلفة مكانا ، المتطورة زمانا
. فيكتفى الاسلام بما هو صالح للمحافظة على قاعدة المساواة بين الناس فى أى مجتمع
، فى أى مكان ، وفى أى زمان : الشورى: " وأمرهم
شورى بينهم "( الشورى : 38 ) . والعدل "
واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"(النساء: 58). وكلاهما " نظام"،
لهذا جاء التكليف به خطابا للجماعة.
فالشورى نظام
اجرائى لاتخاذ متعددين متساويين قرارات موحدة. فهى غير مقصورة على تبادل العلم
بمشكلة مشتركة، ولا على تبادل ا لمعرفة بحلولها المحتملة وأساليب تحقيقها، ولكن هى
فى النهاية تعيين القرار الذى يرى كل مشارك أنه الحل الصحيح للمشكلة المعروضة وذلك
" بالاشارة " به على الاخرين. والامر بالشورى قطعى الدلالة على تحريم
الاستبداد من ناحية، ووجوب الشورى من ناحية أخرى، فى كل أمر، أيا كان مضمونه، يخص جماعة،
أيا كان عددهم. فيصبح اسناده اليهم فهو " أمرهم " جميعا وليس أمر أحد غيرهم.
أما القرار الذى تسفر عنه الشورى فهو ملزم لكافة الشركاء فى الامر، للاسباب التى
تحدثنا عنها من قبل (فقرة 77). فان كان القرار مما لا ينهض به كل أصحابه، دخل
اختيار من يتولى القيام على تنفيذه فى نطاق الشورى؛ فان اختاروه، ثم قبل، أصبح ولى
ذاك الامر تفويضا من أصحابه ملزما بقرارهم وذلك من ناحيتين: الاولى، ان مصدر شرعية
ولايته تفويض محدد المضمون بالقرار ذاته، فان خالفه فقد شرعية الولاية. الثانية،
ان مخالفته ما اسفرت عنه الشورى رجوع الى الاستبداد المحرم أصلا. فان التزم حدود التفويض،
ومادام ملتزما، وجبت طاعته:" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم
" (النساء: 59). اذن هى طاعة الجماعة، والا كان للجماعة أن تخلعه. أما كيف؟
ومتى؟ وأين؟ ولماذا يتشاورون؟ فمتروك لهم، يلتمسون أصلح أسبابه فى زمانهم ومكانهم
مع جواز التفويض السابق والاجازة اللاحقة، وفى هذا يكون أمرهم شورى بينهم أيضا. ان
الالتفات الى جواز التفويض السابق والاجازة اللاحقة يسهل فهم كيف كانت الشورى تتم
على درجتين أو أكثر فى الامور المشتركة بين التجمعات القبلية الى أن تصل الى متحدث
باسم القبيلة، وكيف كانت تتم بين عدد محدود فى مرحلتها الاخيرة وكيف كانت الثقة فى
القائد، والمبادرة الى تنفيذ رأيه تفويضا سابقا أو اجازة لاحقة
والعدل نظام
اجرائى لبيان وجه الحق بين المختلفين فيه طبقا للقواعد المنظمة لعلاقات الناس قبل
الاختلاف وذلك بما يسمى الحكم (القضاء)، ثم تنفيذ الأثر الذى ترتبه تلك القواعد فى
محله ولو بالإكراه.
وبدهى ان كل هذا، شورى وعدلا، يجرى ويدور فى
الحياة الدنيا. فالناس لا يتشاورون الا فى أمور الحياة. والناس لا يحكمون بين
الناس الا فى الحياة. فكلاهما، الشورى والعدل، نظام الحياة الدنيا. ثم انهما
محددان بقواعد النظام العام الإسلامي، فان اختلف الناس فيما اذا كانا، شكلا أو
موضوعا ـ يتفقان أم لا يتفقان ـ وقواعد النظام العام الاسلامى، كان فرضا عليهم
اجمعين أن يرجعوا الى تلك القواعد فى القرآن فثمة حكم الله:" وما اختلفتم فيه
من شئ فحكمه الى الله " (الشورى: 10) والناس لا يختلفون فى شئ الا فى الحياة
الدنيا.
*****