الجمعة، 29 يوليو 2016

ثلاث نقاط على حروف الثورة ..النقطة الثالثة

ثلاث نقاط على حروف الثورة
النقطة الثالثـــة
(1948)

الدكتور/ عصمت سيف الدولة 

مقهى " الشمس " يطل على شارع فؤاد . فيما يلى الشارع دار القضاء المختلط . قضاء الأجانب . يملك المقهى ويديره " يونانيان " عتيقان . ليس هذا غريبا . لا يملك المصريون شيئا فى شارع فؤاد من أول دار القضاء المختلط إلي دار الأوبرا . ولا يتحدث أحد ، غير الخدم والعاطلين من الشيوخ ، اللغة العربية فى شارع فؤاد . شارع فؤاد مقسم فيما بين شملا ، وشيكوريل ، وأوريكو ، وبنزايون ، وصيدناوى ، ومزراحى ، وعدس .. بنايات ومتاجر .. ولا تزال الأنوف المعقوفة تطل منذ شهر من وراء النوافذ الزجاجية على مظاهرات صاخبة فى شارع فؤاد . مظاهرات تقول تسقط الصهيونية ، ويعلقون عليها بلغة لا يفهمها المتظاهرون . فما بال مقهى " الشمس " عامرا بالعمائم والملابس الداكنة والوجوه التى تعلمت الصبر من طول المذلة . كأنه قطعة من أسيوط . منذ الصباح الباكر ، كل صباح ، يرد إليه لابسو الجلاليب السوداء الفضفاضة ورقابهم العارية الهزيلة يخبون فى مشيتهم خشية السيارات كأنهم سرب خائف من النعام الأسود . وهناك يجتمعون . وهناك ينتظرون . صاحب المقهى يعرف من الذى ينتظرون فينظرهم الى حين . فلا يشربون شيئا ولا يدفعون .

   عندما ينتصف النهار ينهضون فجأة ، فتصفق أطراف جلابيبهم ويتزاحمون على يد القادم . يصافحونها ويقبلونها . حتى إذا ما جلس " البك " تحلقوا حوله . يبث كل منهم شكواه .
    كان ذلك فى حزيران ..
   كان الأفندى من بين المنتظرين ، صحب " فتحى " وأباه . أبوه طاغية وفتحى صديق مرحلة الدراسة الثانوية ، فذهبوا جميعا الى حيث ينتظر الجميع "البك".. سيد بلادهم وابن سيدها ..
ـ    الم أقل لك يا فتحى دعك من الوظيفة .
ـ    اسكت حتى لا يسمعك هذا الرجل . ألا ترى أنه يجرنى كالعجل الصغير . لقد ربانى كما يربى أبقاره . ولا يعرف الآن أنه قد جاء وقت الحليب . وعلى أن ادر عليه وفاء.
ـ   فتحى . لماذا ترضخ .
ـ   أنت تتعابط . إنه طاغية . إنه مخيف . قد يقتلنى .
ـ   أنت الآن تبالغ .
ـ   أبالغ .إنه أبى . كيف اذن استولى على نصف أرض القرية وهولا يملك منها إلا القليل . كيف يقتسم المحاصيل جزية على الفلاحين . كيف بعث الى السجون بعشرات من الشباب جزاء جرائم ملفقة هو فاعلها وشاهدها وهم ضحاياها . كيف يلحق الصبايا بخدمته فى بيتنا عنوة ويهجر إليهن فراش زوجاته الأربع . أسكت . لم يقتل أحد فى بلدنا إلا كان هو قاتله . وفى الدوار يجتمع كل مساء عتاة المجرمين . دوار العمدة .
ـ   أولى بك إذن أن تهرب .
ـ   يا أخى ، لقد ظل عشرين عاما يبيع أصوات الناخبين فى القرية صفقة واحدة لهذا " البك " بدون أن يقبض الثمن . الثمن وعد بأن أصبح موظفا بإدارة المركز . مركزنا . وها هو يقودنى الى هنا ليقبض ثمن ما باعه من بشر طوال عشرين عاما . فهل ترانى أفسد الصفقة . يقتلنى والله يقتلنى . إنه أبى وأعرفه . وله غيرى ثمانية ذكور .
   وجاء دور الطاغية ..
   خدامك وابن خدامك فتحى ابنى أخذ الشهادة ، كلنا خدامينك . وقد شخت وأصبحت قدمى على حافة القبر . أريد أن أمتع عينى بأن أراه موظفا فى المركز . قبل أن أموت . ووالله ، والله والله وأنت تعرف انا ما أتمنى الصحة إلا من لأجل خدمتك . ولد يا فتحى . سلم على سيدك وقبل يده .
ـ   لا. لا . لا سمح الله .
ـ   لا والله . على " الطلاق " ليسلمن عليك ويقبل يدك . هذه بركة . أنتم الأسياد . خلقكم الله لتنفعوا عباده . جلت حكمة الله .
 عندما انحنى " الاستاذ " فتحى يقبل يد " البك " تساقطت من جبهته نقط من العرق ..
 قبَّل ثم جلس ثم صمت .
 وأخرج الأفندى من جيبه سيجارة وأشعلها . فاتجهت إليه عيون صغيرة لامعة . واهتز أكثر من شارب . وسرت همهمة . وتخلى الطاغية عن مكانه لتنعقد صفقة أخرى . بشر باعوا أنفسهم سنين طويلة وجاءوا يقبضون الثمن . وبشر جاءوا يبيعون أنفسهم بثمن آجل .
 ونهض البك وانصرف فصفقت أطراف الجلابيب السوداء وهى تغادر مقهى "الشمس ".
***
بعد شهرين .. فى آب 1948 ..
ذهب الأفندى الى قريته ، كعادته ، قابله أبوه بترحاب كبير . واحتضنه حتى دمعت عيناه . أبوه قدوة لأسرته أما الباقون ، أما أهل القرية ، أما أهل القرى المجاورة فقد كانوا لا يزالون يتجادلون فى أمره . لم يستقر بهم الأمر على وجه واحد . فلم يرحب به أحد الى أن يستقر الأمر .

   قال فريق : لقد فسدت أخلاقه فى المدينة فلم يعد يعرف الأدب .
   وقال فريق : ان التعليم هو المفسدة لأنه يصيب صاحبه بجهل الحدود .
   وأفتى  إمام المسجد بأنه كفر إذ خالف قوله تعالى " وأطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم ". والأدب جزء من الطاعة . وأولى الأمر منا لا يجهلهم إلا كافر .
   وقال العاطفون لكل عالم هفوة . يغفر له هفوته شبابه .

   قال : ما شأن الناس يا أبى ؟.
   قال أبوه : إنهم يخوضون فى هذا الحديث منذ شهرين . ولقد كاد الأمر يؤدى الى مخاطر الاقتتال . فقد انبرى بعض أبناء عمومتك يدفعون عنك الألسنة . ولكنك لم تفعل شيئا غير لائق بك .

   قال : ولكن ما الأمر ؟..
   قال أبوه : لقد إتصل بعلمهم ثم شاع ، أنك قد أشعلت سيجارة أمام " البك " فى مقهى الشمس " فمنهم من حسبها هفوة . ومنهم من حسبها كفرا . ومنهم من حسبها جهلا ، ومنهم من حسبها تجاوزا لحدود أقامها الله بين الناس ورفع بها طبقات فوق طبقات . وفى هذا يختلفون حتى اليوم . إنها ـ يابنى ـ نواميس العبودية المورثة . ألم تر الى الواحد منهم يقتل أخاه ردا للإهانة بالكلمة . ثم يفخر بعدد ما تلقى على قفاه من صفعات الشرطى . إنهم لا يزالون يقارنون بينك وبين الاستاذ فتحى ويحسدون والده إذ أحسن تربيته فعرف الحد الفاصل بينه وبين سيده حين قبل يده .
***
   كل الأجنة فى بطون الامهات خرجت الى الدنيا ذكورا وإناثا . منذ عام 1952، وضعت الأمهات ملايين الذكور والإناث . فى كل شهر تبنى مدرسة. فى كل قرية تبنى مدرسة. والجامعات تنتقل الى حيث أولاد الفلاحين. يحتضن العلم الأطفال ذكورا وإناثا. يرعاهم بدون مقابل، تكتظ الجامعات بأولاد الفلاحين بدون مقابل. وينتظر العمل الطالب على باب خروجه. لا يتشرد أولاد الفلاحين. لا يُقَّبِل أولاد الفلاحين أيدى السادة من أجل ما يستحقون. أما الآباء فلا يبيعون أصواتهم من أجل مستقبل أولادهم. لا ينتظرون أحد على المقاهى. إنهم مشغولون بملء نصف مقاعد كل الهيئات الشعبية ، موزعون بجلابيبهم الداكنه على مقاعد مجلس الشعب.
   ويفلسف أولاد الفلاحين نقد الثورة فيقولون أن بعض حروف الثورة تفتقد نقاطا. ماذا تعنى حروف الثورة غير المنقوطة ؟ ويتمردون من أجل مزيد من المساواة . تفلسفوا تفلسفوا … فالعلم غزير . وتمردوا تمردوا … فالطريق طويل .. ثم أجيبوا :
   ـ من علم هذا الجيل المتمرد أن الناس سواء ؟ من علمهم أن الثورة حق ؟ .. من علمهم حق الثورة ؟….
  ـ الثـــــــورة ..
*****

القاهرة عام 1977

الاثنين، 25 يوليو 2016

ثلاث نقاط على حروف الثورة .. النقطة الثانية

ثلاث نقاط على حروف الثورة
النقطة .. الثانيـــــة
(1947)

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

     .. دق على الباب ،
ـ         على . ولد يا على ، اصحَ .
ـ         أبى . مازال الليل ليلا .
ـ         أى ليل يا كلب يا بن الكلب . قلت لك اصحَ . قم من جوارها لتدرك السوق . أمامك مشوار طويل لابد من أن تأخذ أول " معدية" . قم يا ولد .
ـ         طيب . طيب . دعنى لحظة فقط .
ـ         قم يا ولد . أنا عارف . لا فائدة فيك ولا فى جيلك مادمتم تعودتم النوم فى أحضان النساء . اتركيه يا امرأة .
          وخرج على الى أبيه . وعلى شاب كالرجال طولا وعرضا وبناءً متينا . ثم أنه قد زفت اليه زوجته منذ ثلاثة أيام .
ـ         أبى حرام عليك ما يزال الليل ليلا .
ـ         نحن فى الصبح يا أعمى .
           وابتسم على ابتسامة لم يرها والده الشيخ الضرير . وصحب أباه الى المسجد ليصلى بضعة عشرات من الركعات تعويضا لما فاته أيام الشباب قبل أن يصلى الفجر . وعاد به الى المنزل . طار النوم وعليه أن يدرك السوق . أمس خاطت له عروسه عشرين جنيها داخل جيبه حتى لا يسرق منه ثمن البقرة . أولاد الحرام كثير فى سوق المركز . والبقرة هى الركن المكمل لبناء الأسرة . لا يكمل الزواج إلا إذا دخلت مع العروس بقرة . وها هو نصف المهر بأعلى و " النقطة " التى أهداها لك الناس يوم عرسك لتشترى البقرة فتصبح رجلا ورب بيت . هذا ما كان والدك يستعجله . أن يراك رجلا ورب بيت قبل أن تشرق شمس اليوم الرابع من زواجك . ولقد استعجل فى الحديث عن بقرتك أمس فعرف الذين صاحبوه فى صلاة العشاء أن عليا سيشترى غدا بقرة .

     ارتجف على . إن على الطريق من يتربصون به لاشك فى هذا . فليستعن بابن عمه . أحمد ، وأحمد " خفير نظامي " يحمل بندقية حكومية ويهابه الناس . ثم إن أحمد لا يقضى الليل فى أحضان إمرأته . إن إبنه الأبله أمين يشغل موقعه منذ بضع سنين . ولو أراد أن يشغله لما استطاع الا تحايلا . ولقد علمه أحمد قبل تزوجه كيف يحتال فى الوصول الى زوجه عبر أجسام البنات والأرامل اللاتى يملأن صحن الدار . ثمانى نسوة ورجلان وشيخ ضرير وغلام أبله هو أمين . تلك هى الأسرة التى أضيفت إليها بالأمس عروس وتضاف إليها اليوم بقرة .

   لا حول ولا قوة إلا بالله .

   بيت وخرب ..

   قال قائل : كان الجدعان يعبران القنطرة فوق الترعة الصغيرة عندما انطلقت الأعيرة النارية ، سقطا فى مياه الترعة . سقط على بثروته . وسقط أحمد وبندقيته . وعندما تجمع أهل القرية وانتشلوا الجثتين كان على وأحمد ينقصان الحياة والثروة والبندقية . اختلس الجوعى الملتاعون بقايا قتلاهم . الجوع كافر . نسوة القرية كلهن يولولن فى منازلهن يغرفن من الطين ويضعن على رؤوسهن ثم يدرن فى حلقة ينشدن أغانى تقطر حزنا على ايقاع ضرب خدودهن فهن القريبات من على وأحمد . عروس على غير مدربة . إنها تقع كثيرا قبل أن تتم الدورة . وتحت ظلال أشجار السنط  يجلس الرجال صامتون وقد دفنوا رؤوسهم بين أرجلهم. ولا تسمع الا همسا .

   لاحول ولا قوة الا بالله ..
   بيت وخرب ..

   أما الشيخ الضرير فقد شل حين بلغه النبأ . أما أمين الغلام فلا يعلم أحد أين ذهب . عشرون ساعة مضت قبل أن تنتهى النيابة العامة من التحقيق وتأذن بدفن الجثتين . كانت النيابة العامة قد وصلت بعد أن مضت خمسة عشرة ساعة . كانت قد علمت بعد أن مضت ساعتان . كان هاتف ( تليفون ) العمدة قد أبى أن يبلغ رسالته قبل أن تمضى ساعة .

   ودفن على ودفن أحمد . ومن يمت مقتولا لا تقام له جنازة ولا يقبل فيه عزاء الا يوم الثأر . ومن الذى يثأر . أذلك الغلام الأبله ؟..

   لاحول ولا قوة الا بالله .
   بيت وخرب .

   مات الشيخ . وتزوجت من تزوجت . والتحقت الصغيرات بخدمة موظفى الحكومة وانتقلن معهم الى حيث لا يعرف أحد كما فعلت من قبل مئات الفتيات الصغيرات . وغادر أمين القرية الى حيث لا يعرف أحد كما فعل من قبل مئات من الغلمان . من حين الى حين تتردد الشائعات أن بنت فلان أصبحت داعرا . وأن إبن فلان أصبح مجرما . ولا أحد يهتم فقد كان الموت جوعا أو غدرا هو البديل على أى حال .
***
   وفى ذات أصيل … بعد سنين ..
   كان " الأفندى " جالسا  على مقعده المريح يتأمل البحر أمامه ويراقب الشمس وهى تكاد تغيب فيه . ويتذكر . أين الأمس من اليوم . انقضت سنون طويلة منذ أن كان يتسابق هو ورفاقه ، عرايا كما ولدتهم أمهاتهم . فى الانزلاق على مجارى الطين التى يصطنعونها . إنه الآن يتأمل البحر على شاطئ " المنتزه ".

   " المنتزه "
   نعم المنتزه يا بن الهمامية . يا صبار الطين . يا برص الجبل الأجرد . فى المنتزه حيث كان يعيش فاروق الملك وأهله يا ابن الفلاحين . يا لها من دورة رائعة . لم تذق فى العشرين سنة الأولى من حياتك ماء صافيا من الطين أو الجراثيم ، وكان أهلك يعرفون أوصاف البحر من حجاج القرى الأخرى ولكنك الآن مزروع فى المنتزه منذ الصباح الباكر كأنك ورثته عن أهلك . ترى من الذى ورثك إياه ؟.

   وعندما يغيب الضوء تحتضن الظلمة أحلام الغرور ..
   من رحلة الحمار على  الطريق المترب الى ملاهى قصر المنتزه طريق طويل . قطعته بعقلك . باجتهادك . تعلمت فتفوقت فتخرجت فأنتجت فأصبحت من رواد المنتزه . لم يورثك أحد شيئا . كسبت كل شئ فلا فضل لأحد عليك .

   ويحجب ما بقى من أشعة الشمس عملاق من البشر يلبس ملابس العوم وتدس فتاة رشيقة يدها تحت إبطه . إنه لا يراهما إلا كجسمين عابرين على صفحة أرجوانية . ولكن الشاب يراه . يتوقف .  يلتفت ، يترك فتاته . يجثو على ركبتيه ليحتضن الجالس ويقبله قبلات حارة .
ـ     من ؟
ـ     أمين ..
ـ     أمين من ؟.
ـ     الا   تعرفنى ؟

   عرفه الآن واحتضنه ، ونهض من مقعده فصافح زوجته .
   أصبح كل شئ واضحا بالرغم من غياب الشمس .
   فهناك بعيدا عن قرية . جنوب القاهرة . أنشئت قرية أخرى اسمها " عزبة الصعايدة " فيها أكثر من ألف شاب من أبناء قريته يلبسون ملابس الأفندية . ويقرأون الصحف . ويتجادلون فى السياسة . لأنهم قد أصبحوا عملا فى مصانع حلوان . وتحملهم سيارات المصانع دفعات دفعات كل صيف . الى الاسكندرية . وتنثرهم كالورد ، على شواطئ قصر المنتزه ، ومنهم أمين .

   يا أحلام الغرور ..
   وكيف ورث أمين بعد خراب بيتهم موقعا فى قصر فاروق ؟..
*****


 القاهرة فى 1977

الخميس، 21 يوليو 2016

ثلاث نقاط على حروف الثورة .. النقطة الأولى

ثلاث نقاط على حروف الثورة
النقطــة … الأولى
( 1946 )

الدكتور / عصمت سيف الدولة
 
 باسم المالكين أبناء المعدمين ، باسم العاملين أبناء العاطلين ، باسم العمال أبناء الفلاحين ، باسم الطلبة أبناء الأميين ، باسم الأصحاء أبناء المرضى ، باسم الأحرار أبناء المستبعدين ، باسم الأعزاء أبناء المستضعفين ، باسم سكان القرى تنيرها الكهرباء أبناء الذين عاشوا وماتوا فى الظلام ، باسم الذين لم يذوقوا قطرة ماء عكر أبناء الذين كانوا يشربون الماء بالطين ، باسم المصانع ، باسم المزراع ، باسم المدارس ، باسم الجامعات ، باسم الوحدات الصحية ، باسم الأدوية المجانية ، باسم التخطيط ، باسم الاشتراكية …
نحيى الذكرى الخامسة والعشرين لثورة 23 يوليو ..

***

النقطة الأولى .. 1946

… بعد سبع ساعات طويلة وقف القطار ، من المحطة الى شركة حافلات "الخواجة مقار " . مقار لم يكن أجنبيا ، مقار كان " قونصلاتو " ، كان أعيان الريف يلتحقون بخدمة الدول الأجنبية ليحتموا بالامتيازات . كان الأجانب لا يخضعون للقانون المصرى فى مصر . " القونصلاتو" مقار صاحب إمتياز المياه والنور والمواصلات فى محافظة أسيوط . من شركة مقار تتسكع "الحلزونة" ( الباص ) على قنطرة أسيوط متجهة إلي شرقى النيل ، نترك وراءنا كل ما يمت الى القرن التاسع عشر بصلة حضارية . أسيوط البندر لا تزال فى القرن التاسع عشر . أوائله . فى الشرق الأمر يختلف . لا سكة حديد ، لا طرقات ، لا مياه ، لا إنارة . لاشئ أضيف منذ حكم المماليك . ليس الأمر سيئا الى هذا الحد . الطرق معبدة . أسلاك الكهرباء ممتدة فوق القرى حتى قرية " الساحل " . أربعون كيلو مترا جنوب شرق أسيوط . حدائق وقصور وكهرباء ومياه ومدرسة ثانوية . الساحل قرية عائلة محمد باشا . محمد باشا رئيس حزب وكان أبوه مرشحا للملك أثناء الحرب الكبرى الأولى . رشحه الإنجليز لضمان توريد المصريين لخدمة جيوش المحتلين . ابتداء من الساحل تغيب المدنية . " الحلزونة " ومن فيها غارقون فى سحابة التراب التى تثيرها . تلائم الحافلة العتيقة بين حركتها وحفر الطريق فتكاد تتمزق أوصالها . أنفاس الناس المكدودين حامية . جدار الحافلة ملتهب . التراب الساخن يهرى الصدور . شمس تموز المحرقة تمد كل شئ بقبس من لهيبها . الناس لا يتكلمون . يكحون فقط . وإمرأة تقئ وطفلتها تبكى . تقئ المرأة داخل حجابها . النساء محجبات فى صعيد مصر . يتجمع الناس فى جانب من الحافلة فتميل ويلعنهم السائق . يولون المرأة ظهورهم ويفسحون لها حتى تقئ خارج حجابها . من جوفها الى جوف الحافلة . لا تزال الشهامة فضيلة فى الصعيد . ولكن رائحة الهواء الساخن المترب أصبحت نتنة .

   الأفندى القادم من القاهرة تحت كومة من البشر . رائحة عرقهم نفاذة . يكاد يقئ . عيب . هل يقئ هو وإمرأة فى وقت واحد ؟ وماذا يقول الناس حين ينتشر الخبر ؟ لم تفلح سنوات الدراسة فى الجامعة . لا يزال يعيش قيمه القبلية . "الحلزونة " الركيكة ، الخليعة  تتأرجح على الطريق وتشق غبارها بصعوبة لمدة خمس ساعات ، ثم تكح وتبطئ . وترتعش حتى تقف . قطعت ستين كيلو مترا . هنا المركز . هنا السلطة . الدولة . هنا القضاة الذين يحكمون . ورجال النيابة الذين يحققون الجرائم . ورجال الشرطة الذين يطاردون المجرمين . والمدرسة الابتدائية بتلاميذها الأربعين . وليس فى المركز كهرباء ولا ماء ولا مطاعم ولافنادق ولاطرق مأمونة .

   هنا منفى الموظفين . كل شئ توقف عند " الساحل " لأن الساحل قرية بيت السيادة . لماذا ـ إذن ـ لا ينقل المركز الى القرية ؟ لأن السادة لا يريدون أن تجاور سيادتهم فى قريتهم سيادة القانون . لهم قوانينهم وقضاتهم وسجونهم الخاصة .

   من المركز جنوبا على ظهر حمار . منذ أن كان الأفندى طفلا كان يتصايح مع أترابه ويسابق كل أهل قريته . كل أهل القرية حتى المحجبات من النساء كانوا يتسابقون الى الطريق ينتظرون سحابة من التراب الكثيف بانت فيما يلى شجر السنط  من ناحية الشمال . الرجال يعجبون ويصطنعون الوقار . النساء يتهامسن ويصطنعن الحياء . والأطفال يصخبون ويعبرون عن دهشتهم بكلمات منكرة . وعندما تمر سحابة التراب يزفها الجميع مصفقين . ويرددون " الكمبيل أهه .. الكمبيل أهه " . منذ أن كان طفلا كان مرور سيارة فى ردائها الترابى الكثيف عرسا تزفه القرية على قارعة الطريق يقولون أن الزفة كانت تتكرر كل عام أو كل نصف عام . مايزال الحمار مطية للذين يملكون الحمير على أى حال .

   الحمار ثقيل والتراب ثقيل والحر ثقيل . وكل شئ باهت فى وهج الشمس . هو على ظهر الحمار وبضعة من أبناء عمومته يحيطون به مرحبين به كثيرا فدون الكثير فقليلا ثم يسكتون . بعد عشرة كيلو مترات انقطعت الأصوات إذ انقطعت الأنفاس وأصبح الموكب جنائزيا حقا .
   فى الجنائز يحدث الناس أنفسهم أحاديث حلوة . وراء قناع التجهم الجنائزى تعربد ذكريات مرحة . كم مرة قطع هذا الطريق ذهابا وعودة من المدرسة الابتدائية . مئات المرات . ربما آلاف المرات . على ظهر ذات الحمار ؟ لا. على ظهر أم الحمار ذاته . فى الفجر من صباح كل يوم تحمله الى مدرسته . وتعود فتحمله الى قريته . فى أيام الشتاء " يصرونه" فى قطعة من القماش السميك خشية البرد . ويضعونه على ظهرها كما توضع زكائب الخضر المرسلة الى سوق المركز . ووراءه على ظهر ذات الحمارة إبن عمه الكبير يضمه إليه حتى لا يتدحرج من فوقها . نام إبن عمه مرة فتدحرج فى شرنقته السميكة الى أن أدركوه قبل أن يغوص الى قاع الترعة .  

   هذه هى القرية . حمدا لله على سلامتك …. الله يسلمكم . 

   قال له عمه ألف مرة أسبابا ، لم يعد يذكرها ، كانت قد الجأت جده القديم الى هذا المكان من وادى النيل . على إمتداد النيل العتيد اختار جده تلك البقعة التى يجرى فيها النيل تحت سفح الجبل الشرقى . البقعة التى لا وادى فيها إلا أشهر معدودات من كل عام . تسخر القرى الأخرى من أن جده القديم كان يحب أن يجلس على حجر ويدلدل قدميه الحافيتين فى الماء . كان لا يحب الطين . تكاثر النسل فنثروا منازلهم على سفح الجبل . أين هذا من لبنان . صخور الجبل الشرقي جرداء إلا من الأفاعي والعقارب والبشر . وأسراب الخفاش التى تسكن الكهوف . ولكل شئ وجهه الآخر . يحاصر النيل القرية ثلاثة أشهر ابان الفيضان. وتصبح القرية مستقلة حقا . حتى الصراف لا يستطيع أن يصل إليها ليجبى الضرائب . حتى رجال الشرطة لا يستطيعون الوصول إليها ليقبضوا على المجرمين . أما البريد ، أما الأطباء ، أما المعلمون ، أما الصحف ، فلا تأتى إليها فى أشهر الفيضان . لا، ولا فى غير أشهر الفيضان . تلك من عناصر الحياة التى لا تغادر المركز جنوبا فى أى حال . الفرصة إذن مناسبة . حفلات الطهور وحفلات الزواج كلها فى أشهر الفيضان . ما دامت أقدام جباة الضرائب والشرطة قد انقطعت فليفرح الناس . وتنقضى الأشهر الثلاثة فى عرس متصل . وأصبح ذلك تقليدا لم ينقطع إلا فى صيف 1967 . كان ذلك تعبير الفلاحين الصامت عن مرارة الهزيمة .
   تلك قفزة طويلة …

   نحن فى صيف 1946 . القرية محاصرة بالمياه . حمل " الأفندى " على طوف من البوص الى منزل أهله ، وشارك فى أعراس العام . ورأى نفسه مرة أخرى فى مئات الأطفال العرايا الذين يعبثون ويتعابثون فى لجة المياه العكرة ويصطادون صغار الضفادع . لم يغرق إلا واحد . عندما كان طفلا صغيرا كان يغرق الكثيرون . ويموت الكثيرون من لدغات العقارب . يدفن الأطفال فى السفح ولا تنقطع الأفراح . لا يحزن الناس فى الصعيد على من يموت قبل السن المفيد . قبل أن يرعى الماعز أو يحمل الفأس أو يسرق من القرى المجاورة أو يجيد إطلاق الرصاص .

   " الأفندى " فى هذا العام رجل من رجال القانون . أضيف الى تقاليد القرية تقليد التحكيم؛ ما بين عرس وعرس تكاد تقوم أسباب جنازة . كل الخصوم يطرحون على " إبنهم " ما يختلفون فيه ، انه إبن الطرفين" الخصمين" وعليه أن يكون عادلا . كل أب يرى عدالة ابنه فى طاعته . عليه أن يقضى لصالح الطرفين ، الخصمين . مستحيل . وتكاد تنقسم القرية على مدة صحة نسبته إليها . لو كان يملك مائة جنيه  لا أكثر لأثبت لهم أنه إبن مطيع لكل منهم . وفيم يتخاصم الجوعى العرايا الذين اختار جدهم تلك البقعة الجرداء حيث يتصل الماء بالجبل ؟ ثمار موسم زراعة الشتاء . ولا يختصمون جميعا فيما يزيد عن مائة جنيه . وهم فى هذا يقتتلون حتى الموت فى كثير من الأوقات . يقتل فى القرية رجل من أجل جحشه الذى قضم بصلة . ويموت قاتله ثأرا . إنهم يتعاملون مع الحياة على أساس قيمتها الحقيقية . وقيمة الحياة فى القرية لا تساوى جحشا أو بصلة . قبل أربعة أعوام كان هنا ورأى أهله يتساقطون موتى فى أماكنهم ويحملونهم بالعشرات الى سفح الجبل . بلا جنائز . كثر الموتى فاستهلكت جنائز الأولين منهما فى البيوت من بن وخبز وجبن فأصبح الحزن حقيقة . أصبح حزنا صامتا بدون طقوس . أصبح حزنا على الموتى وعلى الأحياء ، وتساوت المقبرة والبيت الفارغ مما يملأ البطون . كان ذلك عام الملاريا . المرض الذى يعالج بالشبع . امتد الى قرية الجوعى فرأى أهله يحملون الى المقابر بالعشرات . ولم ير أبدا ، أبدا ، أبدا ، طبيبا أو ممرضا أو حتى دواء . حتى " مأذون " القرية المكلف بقيد المتوفين مات فلم يكتب أحد أسماء الذين ماتوا . فلما أفتى أهله أن كلوا أى شئ تجدونه ذلك هو الدواء لم يأكلوا أبقارهم ولا أغنامهم ولا دجاجهم . وهل يأكل الناس أنفسهم . فى غيبة الأرض يستوى الإنسان والماشية غلاء فى سوق النفوس . فانطلق الشباب يصيدون الثعالب من شعاب الجبل . وأكل بعضهم ثعلبا مشويا ثم حمد الله على أن " الضرورات تبيح المحظورات ".
***
   الهمامية . تلك القرية .. منحها السد العالي واديها . ألجم النيل وحكم طوفانه فانحسرعن الأرض من أجل البشر .
   فنزل أهل القرية من شعاب الجبل يزرعون الأرض الخصيبة ويبعثون بأولادهم الى المدارس الثانوية لأن فى الهمامية مدرسة ابتدائية ومساكن للمعلمين والمعلمات . وشباب الهمامية يلعبون النرد فى ناديهم الرياضى وهم يتابعون برامج التليفزيون بعد أن ترك كل واحد منهم مذياعه (الترانزستور) فى منزله . فى الموقع الذى سبق أن وقف فيه الركب الجنائزى عام 1946 مستشفى صغير(وحدة صحية) فيها طبيب مقيم وصيدلية تمنح العلاج والدواء بدون مقابل . بجوارها صرح من الأسمنت المسلح يحمل على رأسه مخزنا من المياه النقية ليشر أهل القرية ماء بعد أن كانوا يشربون طينا . أما فى مدخل القرية فمجمع استهلاكى يمد أهلها بما يريدون من بضائع فلم يعد أحد يذهب الى السوق على ظهر حمار . أما المقهى المجاور فلينتظر فيه أولئك الذين يريدون أن يركبوا "الباصات " الى المركز أو الى مشاهد السينما فى مدينة أسيوط ثم يعودون . وفى منزلنا القديم تتكدس المخصبات والبذور المنتقاة توزعها " الجمعية الزراعية التعاونية " على أهل القرية الذين أصبحوا زارعين . فى القرية مكتب للبريد . وفى القرية هاتف " تليفون " غير هاتف العمدة . وفى القرية مئات من الفتيان والفتيات الذين يغادرونها فجر كل يوم بسيارات تنتظر الى حيث يعملون أو يتعلمون .
كل شئ قد تغير وانتقلت قريتى من عهد المماليك الى القرن العشرين .
*****

القاهرة عام 1977


الاثنين، 18 يوليو 2016

صوت الأصيل الغائب

صوت الأصيل الغائب

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

نعنى بالأصيل الأمة العربية .
ونعنى بالغيب أنها ليست، ولم تكن منذ خمسين عاما، طرفا حاضرا ومشاركا فى الصراع السياسى والاجتماعي الذى يدور حول مصيرها ذاته .    
   ذلك لأن الأمة العربية ـ عندنا ـ ليست الشعب العربى (البشر)، وليست الأرض العربية (الوطن) فإن لكل دولة شعبا ووطنا بدون أن يعنى هذا أن لكل دولة تقوم على أمة. وليست الأمة العربية عندنا شعبا ذا لغة واحدة أو حياة إقتصادية واحدة أو حالة نفسية واحدة أو دين واحد .
واحدة أو سائدة تستويان فليست هذه هى القضية؛ إن لكل قبيلة جائلة فى الصحراء أو كامنة فى الغابات لغة واحدة وحياة إقتصادية واحدة ودين واحد وشعور قوى بالانتماء القبلى يسمونه الحالة النفسية بدون أن يعنى كل هذا أن كل قبيلة أمة .
إنما الأمة العربية ـ عندنا ـ تكوين إجتماعى  واحد من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معا والحضارة التى نتجت خلال تطور تاريخى من تفاعل الشعب بالأرض. فنحن عندما نقول ـ مثلا ـ أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربى لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل (الأمة) الذى يتضمن الجزء (الوطن) . فالشعب العربى (الناس) والوطن العربى (الأرض) يكونان معا الأمة العربية التى ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التى تقيم عليها إلى أمة، أو من أرض لا تخص شعبا بعينه إلى أرض عربية، إلا عندما التحم الشعب العربى بالوطن العربى، واختص به ليكونا وجودا واحدا هو الأمة العربية خلال تفاعلهما الذى أسفر عن حضارة متميزة. أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة أو الثقافة أو الدين .. الخ فتلك عناصر التكوين الحضارى وهى تختلف من أمة إلى أمة تبعا لظروف التطور التاريخى الذى كونها . أما الحالة النفسية المشتركة والولاء المشترك .. الخ فتلك معبرات فى الأفراد عن إنتمائهم إلي أمة قائمة وتختلف من فرد الى فرد فى الأمة الواحدة تبعا لوعيه علاقته بمجتمعه القومى .

   هذا الوجود الإجتماعى الذى نسميه أمة يحمل فى ذاته خصائص الإعتراف به والتعامل معه بحيث أن جهل أو تجاهل هذه الخصائص كلها أو واحدة منها يعنى أننا إما ننكر وجود الأمة أو أننا نستبعدها من نطاق التعامل بيننا .
   أولى هذه الخصائص وهى أن الأمة تكوين تاريخى نتج عن تفاعل أجيال متعاقبة من الشعب مع أرضه المعينة. وهذا يعنى أن الأرض (الوطن) ملكية تاريخية مشتركة بين أجيال الشعب العربى . ويترتب على هذا أن أى جيل من الشعب  العربى لا يملك حق " التصرف " فى أرض الوطن أو فى جزء منها . فإن فعل بأن تنازل أو تخلى عن جزء من الوطن العربى فإنه لا يفعل شيئا سوى خيانة أمته ويبقى للأجيال القادمة حق استرداد أرضها ومعاقبة الخونة .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك التحرر.

   الخاصية الثانية هى أن الأمة تكوين مشترك من الشعب العربى كله والوطن العربى كله . فكل فرد عربى ذو حق مساو لأى فرد عربى آخر فى كامل تراب الوطن العربى ، أى أن الأرض ( الوطن ) ملكية مشتركة بين كل أفراد الجيل القائم فى أية مرحلة تاريخية . وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مبدئية :

الموقف الأول :
   أنه ليس لأى فرد أو مجموعة من الأفراد أن يستأثر لنفسه أو لأنفسهم خاصة دون باقى الشعب العربى بمصادر الثروة المادية أو البشرية المتاحة فى الوطن العربى بل هم شركاء فى المصادر فى العمل وفى الإنتاج وفى العائد . ومع إخراج الأرض من نطاق الملكية الخاصة يصبح لكل فرد عربى نصيب بقدر ما يؤدى من عمل منتج .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك الاشتراكية .

الموقف الثانى :
   أن ليس لأى فرد أو مجموع من الأفراد ولو بلغت عشرات الملايين أن تقتطع لنفسها من الوطن العربى جزءا ـ كبيرا أو صغيرا ـ لتستأثر لنفسها به دون باقى الشعب العربى ، وتمنع باقى الشعب العربى من حقه فى المشاركة فيه . فإن فعلت كان من حق الشعب العربى فى الجزء ، وفى باقى الوطن ، أن يعيد وحدته ووحدة أرضه .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك الوحدة .

الموقف الثالث :
  أنه ليس من حق فرد أو مجموعة من الأفراد ولو بلغت الملايين أن تنفرد بسلطة إتخاذ القرارات المتصلة بكيفية توظيف الموارد المادية والبشرية المتاحة فى الوطن العربى أو فى وضع النظام الدستورى أو القانون الذى يصوغ علاقة الناس فيه ، بل أن لكل عربى حقا متساويا فى الإسهام بالرأى وبالعمل فى إدارة مجتمعه القومى المشترك .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك الديموقراطية .

   هذه هى ضوابط الموقف القومى التقدمى كما يعبر عنه الشعار المثلث حرية  ( ديموقراطية ). وحدة . اشتراكية . ولأنها ضوابط مستمدة من خصائص واقع موضوعى هو الوجود القومى ، فإنها ضوابط موضوعية . فكما أن وجود الأمة العربية ذاته لا يتوقف على معرفتنا أو إرادتنا فإن ضوابط الموقف القومى التقدمى المستمدة منه لا تتوقف على إختيارنا . إن اخترناها فقد عرفناها ولم نختلقها . وإن لم نخترها فهى ضوابط صحيحة ويتحمل من يشاء مسئولية ما إختار . ولكنه فى هذه الحالة يكون إما منكرا لوجود الأمة العربية ، أو رافضا التعامل معها كواقع موضوعى . وألف باء السياسة تعلمنا أن إنكار الواقع الموضوعى أو تجاهله لا يؤدى إلا إلى الفشل .
***
غير أنه من الواقع الموضوعى أيضا ، الذى لا يجوز إنكاره أو تجاهله أن الأمة العربية (الوطن) مغتصبة بعض أرضها وتقوم على فلسطين دولة استعمارية استيطانية يسمونها " إسرائيل " . ثم إن الوطن تجزأ فيما بين عشرين دولة تضع كل منها لما تتأثر به حدودا تحرسها شرطة ومحاكم وسجون. ثم أن الأمة العربية (الشعب) مقسم فيما بين عشرين دولة تمارس كل دولة منها سلطاتها عليه وتلزمه دساتيرها وقوانينها ولوائحها وتعتبر بقية الشعب العربى خارج حدودها أجانب فلا تسمح لهم بأن ينتقلوا إليها أو يعملوا فيها إلا طبقا لشروطها . وتستأثر كل دولة بما فى الأرض التى قامت عليها من ثروات مادية وبشرية وتساوم أو تبادل أو تتاجر أو تضارب أو تبدد تلك الثروات طبقا لما يذهب إليه هو حكامها.
ثم أن فى داخل كل دولة تستأثر قلة بما هو متاح فيها من ثروات مادية وبشرية وتحصل من عائدها على ما تريد لها قوانينها المستغلة وتحرم الشعب العربى فيها وخارجها من حقه فى ثروات وطنه .
ثم أن فى داخل كل دولة تحتكر قلقة السلطة وتحرم الشعب العربى فيها وخارجها من حقه الديموقراطي فى إدارة شئونه المشتركة .
هذا واقع موضوعى أيضا .
هذا الواقع الموضوعى يحمل فى ذاته ـ أيضا ـ خصائص الإعتراف به والتعامل معه بحيث أن جهل أو تجاهل هذه الخصائص كلها أو واحدة منها يعنى أننا إما أن ننكر وجوده أو أننا نستبعده من نطاق التعامل بيننا .
أولى هذه الخصائص هى تفرد كل دولة عربية بوجودها الخاص أرضا وشعبا ، إن هذا يسلبها الحق ـ دوليا ودستورا ـ فى مد سيادتها إلي خارج أرضها ويمنحها حق منع إمتداد أية سيادة " أجنبية " إلى داخل أرضها . إنها مسئولة عن الحفاظ على وطنها والدفاع عن سلامة ترابها ، وليست ملزمة بأن تحافظ على ما يتجاوز حدود وطنها أو الدفاع عنه ، وكل دولة أو شعب مسئول عن أرضه ومصيره فإن فشل فذلك تقصيرا منه وإن استسلم كان " حرا " فى شأنه ولا مسئولية على الدول العربية الأخرى . وقد تتعاون الدول العربية وقد تتضامن وقد يساند بعضها بعضا فى معركة أو أكثر ولكن ذلك يكون فى نطاق الموقف المبدئى :" حق كل شعب عربى فى تقرير مصيره " مستقلا عن غيره .
ويكون هذا الموقف الإقليمي الصحيح فى معارك التحرر .

الخاصية الثانية هى إستقلال كل دولة عربية عن الأخرى . وليس لأى فرد عربى من الحقوق إلا ما يستمده من قوانين دولته ، وليس لأية دولة عربية أن تتدخل فى شئون دولة عربية أخرى وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مبدئية :

الموقف الأول :
أنه ليس لأى فرد أو مجموعة من الأفراد أن يستأثر لنفسه أو لأنفسهم خاصة ، دون باقى الشعب " فى دولتهم " بمصادر الثروة المادية أو البشرية المتاحة فى  " وطنهم " بل لابد من أن يكون لك واحد حسب عمله . وليسو مسئولين بعد هذا عن تحرير شعوب غيرهم من الاستغلال والقهر الاقتصادي .
ويكون هذا هو الموقف الإقليمي من معارك الاشتراكية .

الموقف الثانى :
حق كل شعب فى كل دولة فى الاستقلال بدولته والاستئثار بما فى أرضها من ثروات وحريته فى استثمارها والتصرف فيها بدون تدخل من أية دولة عربية أخرى ، والدفاع عن هذا الاستقلال فكريا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا والاستنجاد بالدول الأوروبية أو الأمريكية فيما لو حاولت دولة عربية أن تتدخل فى شئون الدولة المعينة .
ويكون هذا هو الموقف الإقليمي الصحيح من معارك الوحدة .

الموقف الثالث :   
حق كل دولة فى أن تقيم نظامها السياسى والاجتماعي الداخلي بدون تدخل فى شئونها وضرورة احترام هذا النظام السياسى والاجتماعي من كل الدولة العربية حتى لو كان قبليا أو إقطاعيا أو ديكتاتوريا فاشيا .
ويكون هذا هو الموقف الإقليمي الصحيح من معارك الديموقراطية .

واضح أن المواقف القومية تناقض المواقف الإقليمية تماما .
ومع ذلك فإن الواقع القومى الموضوعى ، والواقع الإقليمى الموضوعى متواجدان معا ومتداخلان فى الأمة العربية الواحدة . فكل قطعة أرض هى أرض قومية وأرض إقليمية فى الوقت ذاته . وكل شعب إقليمى هو فى الوقت ذاته جزء من الشعب القومى . وكل نصر إقليمى فى معارك التحرر أو الاشتراكية أو الديموقراطية هو فى الوقت ذاته نصر قومي . إن هذا التواجد المشترك بين القومى والإقليمي  فى الأمة العربية يثير كثيرا من الغموض الفكرى والحركى فتختلط المواقف وتتاح فرص الإدعاء والمثالية معا . إذ يسمح ـ أول ـ للقوى الإقليمية بأن تسترد تحركاتها بغطاء دعائى قومى . ويسمح ـ ثانيا ـ لبعض القوى الإقليمية بأن تستر عجزها بإدانة الإقليميين وتحركاتهم والوقوف سلبيا من الأحداث التى تجرى فى وطنهم القومى بحجة أنها أحداث إقليمية  يحركها إقليميون ، هذا بينما الأمة العربية ، أمتهم ، هى موضوع تلك الأحداث .

 فكيف يمكن تبرير هذا الغموض ؟
 بأن تفرز القوى فى الوطن العربى على أساس مواقفها من الواقع وتناقضاته القوميون التقدميون قوة مفرزة والإقليميون بكل اتجاهاتهم قوى مفرزة . كل قوة تمثل واقعا موضوعيا ماديا وبشريا . أحدهما الواقع القومى ، والثانى الواقع الإقليمى . وعندما تفرز القوى على هذا الوجه سيكون التناقض بينهما أعمق مما تجدى فيه المصالحة أو الحلول الوسيطة ، وسيكون الصراع بينهما أكثر ضراوة من كل صراع عرفته الأرض العربية . وهذا هو ما تدركه القوى الإقليمية تماما وتخشاه حتى الموت . ولما كانت القوى الإقليمية هى المسيطرة حاليا بأجهزتها الإقليمية " الدول " فإن كل تلك الدول تسخر قواها الظاهرة والخفية وتتعاون فيما بينها ومع أعداء الأمة العربية فى كل مكان للحيلولة دون أن تفرز القوى القومية نفسها فتصبح قوة مواجهة ضارية .

   ويساعد على هذا أن القوى القومية التقدمية لا تستطيع بحكم ولائها للأمة العربية أن تقف من المعارك التى يديرها ويقودها الأقليميون موقفا سلبيا . فهى تؤيد كل موقف إقليمى من أجل التحرر أو الاشتراكية أو الديموقراطية . وهذا بدوره يساعد القوى الإقليمية بأن تدعى أنها إنما تخوض المعارك من أجل الأمة العربية وقضاياها المصيرية . وهكذا تختلط المواقف وتبدو الخيانات الإقليمية كما لو كانت إنقاذا للأمة العربية ، وتستغل السمة القومية لكل غاية ، وكل نصر وكل هزيمة لتغطية الغايات الإقليمية واجبا فى النصر القومى ونسبة الهزيمة الى الأمة    العربية .

  فما الحــــــل  ؟..
   إن القوى الإقليمية السائدة لن تسمح أبدا للقوى القومية التقدمية بأن تفرز نفسها وتلتحم معا لتكون قوة مستقلة عن الدول العربية وقواها الإقليمية . إنها ستحارب هذا بكل وسيلة وعندما تعجز قد تحاول احتوائه لتكون القوة القومية التقدمية فى خدمة قوة أو قوى إقليمية . وبالتالى فإن مسئولية فرز القوى القومية التقدمية تقع على عاتق تلك القوى . ولا يجديها عذرا ما تلاقى من عقبات ينثرها الإقليميون على طريقها فإن أحدا لا يستطيع ـ بحق ـ أن يعتذر بما يفعله أعداؤه .

   عندما تفرز تلك القوة القومية التقدمية ستكون ممثلة للأمة العربية . أما قبل أن تفرز فإن كل الأطراف الذين ساهموا منذ خمسين عاما ويساهمون اليوم فى المعارك الدائرة على الأرض العربية ، أيا كان موضوع تلك المعارك ، هى قوى إقليمية . كل منهم يمثل إقليمه ، ولا يمثل أى منهم الأمة العربية . وقد يتعاونون ويتضامنون ولكنهم حينئذ حلف إقليمى يمثل دولهم ولا يمثل الأمة العربية . وعندما ينتصرون يكونون هم الذين إنتصروا وليست الأمة العربية . وعندما ينهزمون تكون الإقليمية هى التى إنهزمت وليست الأمة العربية . هذا بالرغم من أنهم " يستعملون " الشعب العربى والأرض العربية فى تعبئة قواهم وتحريكها . ذلك لأن الأمة العربية ( الوطن والشعب ) هى الأصل ، أما الإقليمية ( الدول والأحزاب) فهى لاتملك لنفسها شيئا غير الوطن العربى والشعب العربى .
   وسيظل هذا الموضوع قائما إلى أن تجد الأمة العربية من يمثلها . إلى أن تلتحم القوى القومية التقدمية فى تنظيم قومى وتقدمى . ينطلق من الولاء لأمة دون غيرها ، ويتخذ من الأحداث المواقف القومية التى ذكرناها ، ويناضل فى سبيل تحرير الوطن من أجل وحدته ووحدته من أجل حياة اشتراكية لكل أبنائه . يناضل تكتيكيا فى كل مكان من أجل إقامة استراتيجية واحدة : دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية .
   وإلى أن يتم هذا لا تملك إلا أن نتحدث من موقع الولاء المطلق لأمتنا العربية ، تعبيرا عن موقف قومى مطهر تماما من أو شاب الإقليمية . إننا لا ندعى أننا نمثل الأمة العربية فنتحدث نيابة عنها ، ولكننا نزعم أننا فى هذا المكان ، وفى مثل هذا اليوم من كل أسبوع ، سنحاول أن نرفع صوت أمتنا فى كل الأحداث التى تجرى فى وطننا ولشعبنا . صوت أمتنا العربية الأصيلة الغائبة .
*****
جريدة السفير فى 6 يناير 1975



                                                                     


الثلاثاء، 12 يوليو 2016

الصهيونية فى العقل العربى

كانت هذه الدراسة بمثابة اشتباكا مبكرا مع الصهاينة العرب

الصهيونية فى العقل العربى

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

 ما الصهيونية ؟
  فى البدء  كانت الصهيونية نظرية ، اصبحت استراتيجية بالعناصر الثلاثة  لكل استراتيجية : التنظيم ، الخطة، الهدف. ثم اصبحت  الصهيونية مواقف  وحركة ومعارك تكتيكية . ولايعنى  قولنا ان الصهيونية كانت ثم اصبحت انها انتقلت من مرحلة انقضت الى مرحلة جديدة ، بل  يعنى انها قد تمت واضيف الى مضمونها  الفكرى مضمون استراتيجى  ثم مضامين تكتيكية . فهى نظرية  على المستو ى الفكرى ، وهى تنظيم ذو خطط واهداف محددة على المستوى الاستراتيجى  وهى حركة جزئية  او مرحلية . فكرية او عملية ، فردية او جماعية ، على المستوى التكتيكى ، وكلها صهيونية .
  يكون من المفيد لنا ، نحن العرب، حين نتحدث  عن الصهيونية او نستمع الى حديث عنها ، حين تواجهنا او نواجهها، ان نعرف  ونحدد  المستوى الصهيونى الذى يدور عليه الحديث  او تجرى عليه المواجهة . قلت مفيدا ، واقول انه حيوى . اعنى ان هذه المعرفة بمستويات الصهيونية، والاستفادة بها مسالة حياة   اوموت  بالنسبة الينا نحن العرب . بحيث ا ن  أى خلط او خطأ ، أى جهل او تجاهل ، لمستويات الصهيونية قد يؤدى ـ فى صراعنا معه ـ الى هزيمتنا هزيمة لانعرف كيف وقعت . وافدح الهزائم واكثرها تدميرا هى التى لايعرف المهزوم كيف وقعت .
ترجع هذه الحيوية الى سببين متكاملين :
السبب الاول: ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية يحكم بعضها بعضا ويحدده .فالنظرية  هىالمبدأ والمقياس الثابت. فهى تحكم الاستراتيجية وتحددها . بمعنى ان الاستراتيجية ، مهما تعدلت خططها ، او حتى   تغيرت ، لاتستطيع ان تفلت من اطار النظرية  . وستبقى  غايتها دائما تحقيق الهدف الذى حددته تلك النظرية . ثم ان المواقف الفكرية او الحركية ، الجزئية أو المرحلية ، الفردية او الجماعية ، السلمية او العنيفة ، التى تقع على مستوى التكتيك تكون  محكومة بالاستراتيجية  طبقا لهذا يكون من الحيوى بالنسبة الينا ، حين نتحدث عن الصهيونية او حين   نواجهها ، ان نميز بين تلك المستويات الثلاثة   ،ثم نتعرف اين يقع  الحديث او المواجهة منها . ثم ان نكتشف ، بالرغم من كل تمويه  ، حقيقة  الموقف التكتيكى برده الى الخطة الاستراتيجية لنعرف  على أى وجه يخدمها . ثم نراقب  الاستراتيجية  وننتبه الى  ماقد يصيبها من تغيرات لابد لها من ان تكون اكثر ملاءمة  عند اصحابها ، لتحقيق  الهدف . فاذا غم علينا الامر رددناه الى النظرية .. اذ هى المصدر الاول لكل حركة والمقياس الاخير لكل موقف .
  السبب الثانى : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية اخرى ، تتراكم وتتراكم  متجهة .من الفكر المجرد  الى الواقع العينى . من النظرية الى الاستراتيجية  الى التكتيك حيث تدور المعارك الفعلية  متنوعة المضمون  متنوعة القوى متنوعة الاسلحة . ولكن خط ، الانتصار  او الهزيمة يتجه ـ بالعكس ـ  من الواقع العينى  الى الفكر المجرد . يتم النصر  او الهزيمة  على المستوى التكتيكى  ، وبتراكمه تهزم الاستراتيجية او تنتصر ، ولكن النصر النهائى، او الهزيمة ، لاتتم  الا بهزيمة النظرية  ذاتها ، أى حين لا تجد احدا يقتنع بها وينطلق منها الى استراتيجية جديدة ، او بانتصار  النظرية ذاتها حين يتمكن الطرف المنتصر تكتيكياواستراتيجيا من صياغة  الواقع طبقا لنظريته . وبناء على هذا يكون من الاخطاء القاتلة  لاى طرف  ان يحسب النصر التكتيكى نصرا استراتيجيا  او يحسب  النصر الا ستراتيجى حسما نهائيا للنزاع . وبالعكس ان يعتبر الهزيمة التكتيكية  هزيمة استراتيجية او يعتبر الهزيمة الا ستراتيجية حسما نهائيا للصراع .
    فى عام 1967 ادرك جمال عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها ، وقدم مثالا رائعا للقائد الذى يعرف طبيعة المعارك التى يخوضها ، فبعد شهرين فقط من الهزيمة الجسيمة رفع شعار " مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة " ، وشعار " لامفاوضة ، لاصلح ، لا اعتراف " . وفى العام ذاته سئل وزير خارجية الصهاينة ، ابا ايبان ، عما اذ اكانت الصهيونية ستفعل لو نجح العرب فى تدمير اسرائيل فقال: كنا سنبدأ من جديد لاقامة دولة اسرائيل . وكان كلاهما يعبران عن السمةالتكتيكية  للنصر الصهيونى  والهزيمة العربية عام 1967.
***
    الصهيونية نظرية :
   الصهيونية نظرية فى القومية . تقول : ان اليهود امة . ولابد ان ننتبه الى هذا المفهوم  الصهيونى للامة العربية ، اولا: لان معرفته معرفة واضحة هى الضابط النهائى  للمواقف  الصحيحة من الصراع العربى الصهيونى . وثانيا : لان مشكلة الامة  والقومية مشكلة قائمة فى الوطن العربى على المستويين الفكرى والحركى . أى اننا ـ على وجه ـ نستعمل فى حديثنا عن الامة العربية ومستقبلها ذات الالفاظ التى يستعملها الصهاينة عن الامة اليهودية ومستقبلها . وقد يؤدى هذا الى ان تختلط فى اذهاننا المفاهيم فنتصور ان لنا ولهم نظرية واحدة فى الامة القومية .
اليهودية دين كما نعلم . واليهود هم ممن يؤمنون بذلك الدين ، ولما كان  الايمان بالدين ، أى دين، لايتوقف على الجنس او اللون او اللغة  اوالانتماء  الاجتماعى ، فهو انتماء مفتوح لكل من يؤمن ، فاننا نستطيع ان نتبين بسهولة ان اليهود ،  لمجرد انهم يهود،  لايكونون امة . والواقع  انه لاتوجد فى التراث العالمى كله ، على كثرة مافيه من نظريات فى الامة والقو مية ، نظرية  تقول ان اليهود امة الا النظرية الصهيونية .فالامة فى الصهيونية لاتحتاج فى تكوينها لتاريخى الى وحدة الدم او الجنس او اللغة او الارض او الحياة الاقتصادية .. بل يكفى لتكوين  الامة الانتماء الدينى ومايولده من قرابة روحية تميز بين اليهود وغيرهم من الامم .
    وتختلف هذه  النظرية اختلافا اساسيا عن مفهوم الامة والقومية فى الفكر العربى الحديث . حيث الامة "  مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على ارض معينة خاصة ومشتركة تكون  نتيجة تطور تاريخى مشترك ". ويدخل فى هذا التعريف كل ماتعلمناه من مميزات الامة  كاللغة او الثقافة او الدين فتلك عناصر  التكوين الحضارى وهى تختلف من  امة الى امة  تبعا لظروف لتطور التاريخى الذى كونها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهى متوافرة فى كل مجتمع حتى لو لم يكن امة . واما الحالة النفسية المشتركة  والولاء المشترك .. الخ . فتلك معبرات فى الافراد عن وعيهم الانتماء الى ا مة قائمة ، ولكن الوجود القومى ، الامة ، لايتوقف عليها على اى حال فان  الفارق  الاساسى بين النظرية الصهيونية والنظرية العربية فى الامة هو الاختصاص بالارض والتفاعل معها حضاريا .
***
الصهيونية استراتيجية :
للاستراتيجية عناصر ثلاثة : الاداة . الخطة . الهدف.
(1) اما الاداة الصهيونية ، فهى المنظمة الصهيونية ، وليس مؤسستها السياسية   المسماة اسرائيل  ، كما قد يتبادر  الى الذهن . الصهيونية  منظمة هى التى جمعت الصهاينة وحشدت جهودهم من اجل هدفها . وهى التى بدات بالغزو السلمى قبل 1948 لارض فلسطين  فى شكل  الهجرة وشراء الاراضى ، وهى التى عبأت ودربت وسلحت قواها    استعدا دا للغزو المسلح . وهى التى غزت ثم  اقامت  دولة اسرئيل على قطعة محدودة   من الارض العربية . وهى التى تقف وراء اسرئيل وتستخدمها  كقاعدةانطلاق الى اسرئيل الكبرى التى تمثل  الهدف  النهائى . 
وينبغى  ان ندرك ، ان القول الفصل فى مصير الصراع العربى الصهيونى ليس ما تقوله و تفعله او تقبله اسرئيل القائمة  بل ماتقوله او تفعله او تقبله الصهيونية المنظمة على  المستوى العا لمى . والواقع ان اسرئيل ليست الا المشروع المصغر للهدف الصهيونى . وهى لاتمثل  من بين ادوات الغزو الصهيونى  اخطرها  واقواها تاثيرا فيجاورها  ووراءها   واقوى منها اثرا تلك القوى العالمية التى عبأتها الصهيونية  المنظمة من دول وجماعات وافراد  وافكار واموال وأعلام لتدعم قوة اسرائيل ثم تمد لها الارض العربية حتى تتقدم عليها  باقل خسائر ممكنة ..وقد تجنح حكومة فىاسرائيل  الى السلام  وقد تقبل  التخلى عن التوسع  ولكن هذ ا لن يكون  عند المنظمة الصهيونية  الا استسلاما او خيانة من حكام الدولة القاعدة  ولن تلبث  الصهيونية  ان تغير من تشكيل  الحكم فى دولتها الصغرى لتستانف مسيرتها الى دولتها الكبر ى.
  (2) اما الخطة الاستراتيجية  الصهيونية فتتميز اساسا بانها  عدوانية . ذلك ، لانها ، بحكم الفرق بين منشأ القوة وهدفها ، لابد ان تكون هجومبة . وقد تقف اسرائيل موقفا دفاعيا . وقد تتقهقرولكن هذا لن يكون الا موقفا تكتيكيا فى معركة تكتيكية فى نطاق استراتيجية هجومية عدوانية اصلا . وهو مايعنى تماما انه بعد أى توقف او تقهقر لايملك الصهاينة ، واداتهم اسرائيل ، الا ان يعودوا الى الهجوم  الى ان يتحقق هدفهم الاستراتيجى  او الى ان تهزم الصهيونية نهائيا . فهى اذن استراتيجية  هجومية عدوانية ، هجومية منسوبة الى الصهاينة . عدوانية منسوبة الينا نحن العرب.
(3) اما الهدف ، فقد حددته النظرية على وجه لايستطيع أى صهيونى ان يحيد عنه او يتوقف دونه ويبقى صهيونيا . وتمكن صياغته على الوجه الاتى: مادام اليهود ا مة  فان من حقهم ان يفعلوا ماتفعل كل الامم ، وان يعاملوا كما تعامل الامم . ومن حق الامم ان تقرر مصيرها بنفسها مستقلة عن اية امم او شعوب  اخرى . وهو مايعنى ان تكون لها دولتها القومية . والدولة لاتقوم الا من شعب معين على ارض معينة . اما الشعب  فهو كل اليهود ايا كانوا من اطراف الارض. عليهم ان يجتمعوا على ارض دولتهم . اما عن الارض المعينة ، فهم يقراون فى كتاب يسمونه التوراة ، وهو كتاب ظهر لاول مرة فى عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة ( سفر الملوك الثانى ـ اصحاح 22) . يقراون " لنسلك اعطى هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين اصحاح 15 اية 18). الا انها ارضهم تاريخيا ؟ .. لا. يقراون وعد " يهوه" لاسرائيل بان سيقوده " الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملءة كل خير لم تملأها ، وابار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها "( سفر التثنية ـ اصحاح 6 ـ اية 11) . وماذا عن سكانها واصحابها ؟.. يقراون :" انى ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردهم من امامك" ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22) .
 وهكذا نعرف مايعرفه الصهيونيون ، وهو ان هدفهم الاستراتيجى الاستيلاء على ارض عربية تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات ،واخلاؤها من سكانها ليقيم فيها يهود العالم كله دولتهم القومية .
***
 الصهيونية تكتيكا :
 لايمكن حصر  المواقف والاساليب والمراحل التكتيكية التى تترجم الخطط الاستراتيجية . ذلك لانه على المستوى التكتيكى تدور المعارك الفعلية ويلتحم المتصارعون وتتعدد الاطراف المشتركة بحيث لايستطيع أى طرف ان ينفرد باتخاذ موقف تكتيكى غير متاثر بالموقف  المضاد ، ولا ان يستعمل سلاحا بعيدا عن قياس مضائه على مضاء الاسلحة  التى يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكى الميدان المرن للمناورة فيه تتجلى كفاءة المقاتلين والقادة ، لا فى ميدان القتال فقط ، ولكن فى المقدرة على مواجهة المواقف الطارئة . والملاءمة بين حركاتهم وحركات القوى المضادة .. وتتوقف تلك المقدرة الى حد كبير على الادراك الثابت للتناقض بين الخطط الاستراتيجية للمتصارعين حتى يستطيع كل مقاتل او مشترك فى الصراع ان يطور من اساليبه التكتيكية باقصى قدر من المرونة ، ولكن بحيث لاتنتقل اساليبه من مجال خدمة استراتيجيته الى مجال خدمة استراتيجية العدو . فيكون قد هزم نفسه .
   ومع ذلك فلا باس من ان نقول ان حكماء صهيون قد اطلقوا حركة الصهيونية  من اية قيود انسانية او خلقية من اول القتل الى الكذب وقالوا يوصون ابناء صهيون ": اضربوهم وهم يضحكون ، اسرقوهم وهم لاهون ، قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ، ادخلوا بيوتهم واهدموها ،تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ".
***
  الهزيمة والاستسلام :
  طبقا للمقاييس التى ذكرناها تحقق الصهيونية هدفها باحدى طريقتين هزيمة العرب  او استسلامهم . اما بالاستيلاء على الارض العربية عنوة واخلائها من البشر واقامة دولة اسرائيل عليها ، واما تخلى العرب عن الارض  وتركتها لهم خالية ليقيموا عليها دولتهم . ولانقصد من قولنا خالية  الايوجد فيها عربى على الاطلاق ولكن نقصد ان لايقيم فيها  الا العربى الذى تقبل اسرائيل  اقامته . ذلك لانه لايخفى ان دولة اسرائيل  ستكون فى حاجة الى بشر من الدرجة الثالثة يعفون ابناءها من عبء العمل المرهق او العمل القذر وكمذيعين على موجات البث باللغة العربية ، وجواسيس ايضا.   
    المهم انه نتيجة الخلط المضطرب فى المفاهيم فى المرحلة الحالية اصبح من اللازم التفرقة بين الهزيمة والاستسلام .
  ان الهزيمة هى التخلى عنوة عن هدف تكتيكى او استراتيجى . اما الاستسلام فهو قبول التخلى عن هدف تكتيكى او استراتيجى بدون صراع . وقد يبدو الفارق بينهما دقيقا على المستوى التكتيكى . اذ قد يتم  الانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكى نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى ، وتجنب خسائر محققة . هذا ليس استسلاما ولكنه مناورة ، واحدة من فنون الصراع  التى يجيدها الراسخون فى علم الصراع وفنونه .  وقد تكون مناورة الانسحاب ، والتخلى عن الارض ، بل حرقها وتدميرها ، ابرع تكتيك يخدم الهدف الاستراتيجى . كما فعل الروس مرتين امام نابليون وهتلر . وفى صراعنا مع الصهاينة ، اعنى الصراع العسكرى ، هزمنا عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وهزمناهم عام 1973، وكانت كلها معارك تكتيكية . فى عام 1948و1967 تخلى كثيرون من الشعب العربى فى فلسطين عن الارض وغادروها وكان ذلك يبد واستسلاما، ولكن حين تحول الشعب العربى الفلسطينى خارج الا رض المحتلة الى منظمات مقاتلة وبدا القتال اقتحاما اصبح من الممكن القول بان الهجرة تمثل انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما . وحين امر الرئيس عبد النااصر بسحب الجيش المصرى من سيناء عام 1956 حتى لاتطوقه القوات الانجليزية والفرنسية الهابطة خلف منطقة القتال كان انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما .. وهكذا .
    ولكن الفارق  بين الهزيمة والاستسلام يبدو واضحا حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكى فيتم التراجع على المستوى الاستراتيجى ، او حين تقع الهزيمة على المستوى الاستراتيجى فيتم قبول وتبنى نظرية المعتدين . وهو هنا استسلام لانه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة . فليس من شان الهزيمة فى المعارك التكتيكية ، اعنى الجزئية او المرحلية ، ان تحسم المعركة على مستواها الاستراتيجى ، وبالتالى يكون التراجع الاستراتيجى غير مبرر ، أى تراجعا بدون صراع أى استسلاما . كما ان الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجى لاتعنى ان الصراع قد حسم وانما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين. واروع مثال على كل هذا معارك العرب ضد الغزو الصليبى . انهزم  العرب فى اكثر من موقعة تكتيكية  ولكنهم لم يسلموا ابدا بحق الصليبيين فى احتلال  الارض العربية ، لم يقبلوا ابدا ، ولم يتبنوا  النظرية  الصليبية ، فلم يلبثوا ، ولو بعد حين ، ان حرروا الارض وهزموا اعداءهم .  ومثاله الاخرحركات التحرر الوطنى فى العالم كله . بذرة نموها التى لم يصبها العفن ابدا ، هو رفض النظرية الا ستعمارية ، نظرية تحضير العالم اوروبيا ، نظرية تفوق الرجل الابيض ورسالته الحضارية الى البشر … ومن هذه البذرة ، وبعد قرون من العجز المادى عن المقاومة ، واتت الظروف فنبتت البذرة ثورات لم تلبث ان انتصرت .
    أليس هذا واضحا ؟.
   فما الذى يحدث الان فى العالم العربى ؟..
***
   الاستسلام الوشيك :
   هزمتنا الصهيونية عام 1948 واحتلت جزءا من فلسطين . وهزمتنا عام 1956 وخرجت من المعركة مستولية على مياهنا الاقليمية فى خليج العقبة . وهزمتنا عام 1967 واستولت على سيناء  والضفة الغربية والمرتفعات السورية .وفى مقابل هذا كنا ندرك ان تلك هزائم تكتيكية ونعد العدة لاستئناف المعارك . تحول شباب اللاجئين الى مقاتلين واقتحموا حدود وطنهم . وتقدم العرب الى القائد الذى انهزم يعوضونه ماليا عن دخل القناة ، ويتعاهدون معه على " الا مفاوضة ولاصلح ولااعتراف ". ومن مرحلة الاعتراف بالحطأ بدأت خطى التصحيح . وعبأت اكثر من دولة عربية كل قواها المادية والبشرية لاعادة انشاء الجيوش التى سحقتها الهزيمة ، واستؤنف القتال تحت اسم حرب الاستنزاف بعد اقل من ستة اشهر من الهزيمة علاقاتها الدولية على اساس ان مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة . وحين وجد القادة لم يخذلهم الشعب وجاءت لحظة الاختبار التاريخى حين واجه جنودنا جنود الصهاينة  فى فرصة متكافئة  وانهزم الصهاينة  فى معركة تكتيكية ايضا .. ولكنها امدتنا باقوى اسلحة النصر النهائى : الثقة فى اننا نستطيع ان ننتصر .
    بكل منطق قومى او وطنى او علمى او حتى نفسى .. كان ذلك يعنى اولا : ان يدرك العرب ان نصر اكتوبر 1973 كان نصرا فى موقعة تكتيكية ، لم يحسم الصراع بين العرب والصهيونية على المستوى الاستراتيجى .ولكنه مهد لحسمه لصالح العرب . ثانيا : الايتركوا للعدو فرصة التقاط انفاسه وا سترداد قواه والتحول من الدفاع الى الهجوم . ثالثا : ان يحتفظ القادة بالثقة بالنصر التى قدمها اليهم الجنود بعد ان اشتروها بدمائهم  الغالية . رابعا : ان يكمل العرب ماينقصهم من عناصر القوة  فيضيفوا الى خططهم التكتيكية الجزئية المرحلية خطة استراتيجية شاملة بعيدة الامد .. خامسا: ان يكتشف العرب من خلال عناصر النصر الذى تحقق فى اكتوبر 1973 اصوله المبدئية ، ان يكتشفوا من خلال ماحقق عنصر التنسيق العربى من نصر مدى ماتتضمنه الوحدة من انتصار ، ومدى مسئولية  التجزئة عن مرحلة الهزائم .
   بكل منطق كان يجب ان نوالى انتصاراتنا العربية التكتيكية ، لتحقيق النصر على المستوى الاستراتيجى ، لنصوغ الحياة على الارض    العربية طبقا لنظريتنا القومية ، ونقنع الصهاينة بها ليبحث كل منهم عن ارضه التى جاء منها .
    ضد كل هذا ،
  ضد معطياته العينية ، المادية والبشرية والفكرية ، حدث مالم يحدث فى تاريخ الشعوب كلها بقدر مااعرف من تاريخ الشعوب . وفى ذات للحظة التى انتصرنا فيها فى معركة تكتيكية استسلمنا اونحن على وشك الاستسلام ، لا اقول على المستوى الاستراتيجى ، بل اقول على المستوى المبدئى . كان امامنا خيارات عدة  تقع جميعها على مستوى المعركة التى انتصرنا فيها . كان ممكنا ان نواصل المعارك . كان فى امكاننا ان نتوقف مرحليا . كان فى مقدورنا حتى ان نتخلى عن المكاسب التى حققناها ، وهو اقصى ، واقسى ، مايمكن ان يختاره المقا تلون على ا لمستوى التكتيكى . وكان يمكن ان يكون لكل هذا مبررات ، من الظروف الدولية ، او من الظروف العربية ، او من الظروف المحلية ، سواء كانت ظروفا سياسية او اقتصادية او حتى ذاتية ،  وسواء ‏كانت ظروفا صحيحة او غير صحيحة .. وكنا ستلف فى هذه المبررات ، ولكن خلافاتنا ماكان لها ان تتجاوزمستواها التكتيكى ، أى ان اقصى ماكنا سنختلف فيه هو : " كيف نواصل الصراع حتى نهزم الصهيونية على جميع مستوياتها .
   ولكن شيئا من هذا لم يحدث ..
    الذى حدث اننا بطريقة غريبة على التاريخ ، غريبة على الشعوب ، غريبة على تاريخ الشعب العربى بالذات ، انتقلنا ، نحن الذين انتقلنا . من نصر تكتيكى الى استسلام مبدئى ، موفرين على عدونا عناء الصراع على المستوى الاستراتيجى .
    ذلك لاننا سلمنا ببساطة بان من حق اليهود ان يقرروا مصيرهم ، أى انهم امة . ,ان من حق هذه الامة ان تكون لها دولة قومية وان تقوم تلك الدولة القومية ، الصهيونية ، على جزء من الارض العربية ، وان يكون هذا الجزء بالذات مااشارت اليه التوراة التى يقراها الصهاينة .لم يحدث ابدا ان ارغمنا الصهاينة  على تبنى نظريتهم هذه . لانه لم يحدث ابدا ان هزمونا على المستوى الاستراتيجى ، ولم يحدث ابدا ان حققوا من الانتصارات مايحسم الصراع بالنسبة اليهم على المستوى التكتيكى، وقد كان اخر لقاء بيننا هزيمة لهم .. لهذا قلنا ونقول :  اننا لم نهزم .. بل نستسلم او نوشك ان نستسلم …
   السنا مشغولين بوجود الشعب الفلسطينى ودولته ، السنا فرحين بان اعترف عدونا ، او بعض اعداءنا  بان هناك شعبا فلسطينيا ، وان من حقه ان يكون له موطنا، وليس حتى وطنا؟ السنا نتحاور ونتشاور  ونجادل ونختلف حول  صيغة وجود الدولة الفلسطينية ، هل تقوم مستقلة ام فى اتحاد فيدرالى او كونفدرالى مع الاردن اوسورية . السنا نركض فى انحاء الارض جميعا ، فخورين بكرمنا وسماحتنا وسعة افقنا نعرض السلام مع الصهاينة وندفع ثمنه مقدما قبول الوجود الصهيونى  على ارض فلسطين ؟ .. السنا نسعى الى حد المذلة ، علنا وخفية … ، ملتمسين من الصهاينة ان يقبلوا جوارنا مؤكدين صدق نوايانا فى قبول جوارهم ، على الارض العربية .. اليس على الارض العربية فى جنوب لبنان ، جيش مقاتل " صهيونى ـ عربى " موحد الاسلحة والامدادات والتخطيط وقد يكون موحد القيادة ؟…. ايها الشباب الا نسمى الان ، وطننا العربى ، منطقة الشرق الاوسط ؟..
  فما الذى بقى ؟..
   يقولون :" انها خاتمة جولة وستاتى بعدها جولات "  .. غدا تسترد دولة الضفة والقطاع مابقى من اسرائيل ؟..غدا نقوى فنستانف الصراع ؟ .. غدا .. ياتى جيل يلغى مافعلناه والتاريخ طويل؟ .
لايصدق من هذا القول الا القول الاخير . نعم ، غدا يأتى جيل عربى يلغى كل مافعلوه ، ولماذا غدا، انه قائم  قادر لن يولد غدا ، بل سيضرب غدا وان غدا لناظره قريب ، ولكن لماذ ايطول تاريخ المعاناة ونحن قادرون على اختصاره ..؟ السنا جيلا فاشلا؟.. افلا يكفيه فشله فيخون جيلا  ناشئا.
    اما عن الجولة  التى ستاتى بعدها جولة ، ودولة الضفة والقطاع التى ستحرر باقى فلسطين ، فلا اقول انه عناء . اقول انه احتيال . نصب . خديعة . اننا لم نحرر الضفة او القطاع او حتى جزءا منها ونقيم عليه دولتنا .ولو تم شئ من هذا ولو فى القطا ع وحده ، ولو فى مدينة واحدة من مدن الضفة لكان نصرا عظيما ، ولكننا مشغولون بقبول عرض مشروط .. مشغولون بدراسة صفقة دولة فلسطين فى مقابل دولة صهيونية . مع الاعتراف المتبادل والامن المتبادل ..  ولن ينتهى الامر عند هذا الحد.. سيستانف الصهاينة مسيرتهم العدوانية الى ان تتحقق لهم دولتهم بحدودها التى لاينكرونها.. فقط بلاسلوب الجديد .. اسلوب الاستسلام العربى …
   وبعد ،
   فلماذا استسلم العرب أو يوشكون على الاستسلام ؟ … اعتقد ان الصهيونية وحلفاءها ، بعد ان انهزموا  عسكريا فى جبهة القتال فى اكتوبر 1973 ، فتحوا من جباهنا ثغرات ، وغزوا عقولنا . اختصروا الطريق الى النصر النهائى ، فبدلا من احتلال ارضنا جزءا جزءا بدأوا فى احتلال رؤوسنا فكرة فكرة .  بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهم بعد ذلك بدون حاجة الى القهر ..
     جردونا من نظريتنا العربية ودسوا فى رؤوسنا نظريتهم الصهيونية .
      رفعوا من فكرنا القومية العربية ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية ، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة قامت بدلا منها دولة اسرائيل . وكان لهم منذ البداية حلفاء جاهزون . اولئك هم الاقليميون  الذين انكروا امتهم ، فتنكروا لقوميتهم ، فمنحوا ولاءهم للتجزئة فيما بينهم . والتجزئة لاتمس بل تتدعم اذا مااعطيت الصهيونية جزءا مغتصبا  من الوطن  العربى مقابل ان تسكت عن اغتصاب الاقليمين باقى اجزائه..
   ولما انكر الاقليميون امتهم ، وفقدوا قوميتهم ، تجردوا من نظريتهم ، فلم يستطيعوا ، وما استطاع الاقليميون قط ، ولن يستطيعوا قط ، ان تكون لهم  استراتيجية موحدة فى مواجهة الصهيونية . ماكان ولن يكون للاقليمين اداة نضال عربية واحدة . ماكان ولن يكون للاقليمين خطة مواجهة واحدة . لم يلتق الاقليميون ولن يلتقوا قط على تحرير فلسطين …. وليس هذا قولا جديدا …
*****
القاهرة فى ابريل 1977