ثلاث نقاط على حروف الثورة
النقطــة … الأولى
( 1946 )
الدكتور / عصمت سيف الدولة
باسم المالكين أبناء المعدمين
، باسم العاملين أبناء العاطلين ، باسم العمال أبناء الفلاحين ، باسم الطلبة أبناء
الأميين ، باسم الأصحاء أبناء المرضى ، باسم الأحرار أبناء المستبعدين ، باسم
الأعزاء أبناء المستضعفين ، باسم سكان القرى تنيرها الكهرباء أبناء الذين عاشوا
وماتوا فى الظلام ، باسم الذين لم يذوقوا قطرة ماء عكر أبناء الذين كانوا يشربون
الماء بالطين ، باسم المصانع ، باسم المزراع ، باسم المدارس ، باسم الجامعات ،
باسم الوحدات الصحية ، باسم الأدوية المجانية ، باسم التخطيط ، باسم الاشتراكية …
نحيى
الذكرى الخامسة والعشرين لثورة 23 يوليو ..
***
النقطة الأولى .. 1946
… بعد سبع ساعات طويلة وقف القطار ،
من المحطة الى شركة حافلات "الخواجة مقار " . مقار لم يكن أجنبيا ، مقار
كان " قونصلاتو " ، كان أعيان الريف يلتحقون بخدمة الدول الأجنبية
ليحتموا بالامتيازات . كان الأجانب لا يخضعون للقانون المصرى فى مصر . "
القونصلاتو" مقار صاحب إمتياز المياه والنور والمواصلات فى محافظة أسيوط . من
شركة مقار تتسكع "الحلزونة" ( الباص ) على قنطرة أسيوط متجهة إلي شرقى
النيل ، نترك وراءنا كل ما يمت الى القرن التاسع عشر بصلة حضارية . أسيوط البندر لا
تزال فى القرن التاسع عشر . أوائله . فى الشرق الأمر يختلف . لا سكة حديد ، لا طرقات
، لا مياه ، لا إنارة . لاشئ أضيف منذ حكم المماليك . ليس الأمر سيئا الى هذا الحد
. الطرق معبدة . أسلاك الكهرباء ممتدة فوق القرى حتى قرية " الساحل " .
أربعون كيلو مترا جنوب شرق أسيوط . حدائق وقصور وكهرباء ومياه ومدرسة ثانوية .
الساحل قرية عائلة محمد باشا . محمد باشا رئيس حزب وكان أبوه مرشحا للملك أثناء
الحرب الكبرى الأولى . رشحه الإنجليز لضمان توريد المصريين لخدمة جيوش المحتلين .
ابتداء من الساحل تغيب المدنية . " الحلزونة " ومن فيها غارقون فى سحابة
التراب التى تثيرها . تلائم الحافلة العتيقة بين حركتها وحفر الطريق فتكاد تتمزق
أوصالها . أنفاس الناس المكدودين حامية . جدار الحافلة ملتهب . التراب الساخن يهرى
الصدور . شمس تموز المحرقة تمد كل شئ بقبس من لهيبها . الناس لا يتكلمون . يكحون
فقط . وإمرأة تقئ وطفلتها تبكى . تقئ المرأة داخل حجابها . النساء محجبات فى صعيد
مصر . يتجمع الناس فى جانب من الحافلة فتميل ويلعنهم السائق . يولون المرأة ظهورهم
ويفسحون لها حتى تقئ خارج حجابها . من جوفها الى جوف الحافلة . لا تزال الشهامة
فضيلة فى الصعيد . ولكن رائحة الهواء الساخن المترب أصبحت نتنة .
الأفندى القادم من القاهرة تحت كومة من البشر . رائحة عرقهم نفاذة . يكاد
يقئ . عيب . هل يقئ هو وإمرأة فى وقت واحد ؟ وماذا يقول الناس حين ينتشر الخبر ؟
لم تفلح سنوات الدراسة فى الجامعة . لا يزال يعيش قيمه القبلية . "الحلزونة
" الركيكة ، الخليعة تتأرجح على
الطريق وتشق غبارها بصعوبة لمدة خمس ساعات ، ثم تكح وتبطئ . وترتعش حتى تقف . قطعت
ستين كيلو مترا . هنا المركز . هنا السلطة . الدولة . هنا القضاة الذين يحكمون .
ورجال النيابة الذين يحققون الجرائم . ورجال الشرطة الذين يطاردون المجرمين .
والمدرسة الابتدائية بتلاميذها الأربعين . وليس فى المركز كهرباء ولا ماء ولا
مطاعم ولافنادق ولاطرق مأمونة .
هنا منفى الموظفين . كل شئ توقف عند " الساحل " لأن الساحل قرية
بيت السيادة . لماذا ـ إذن ـ لا ينقل المركز الى القرية ؟ لأن السادة لا يريدون أن
تجاور سيادتهم فى قريتهم سيادة القانون . لهم قوانينهم وقضاتهم وسجونهم الخاصة .
من المركز جنوبا على ظهر حمار . منذ أن كان الأفندى طفلا كان يتصايح مع
أترابه ويسابق كل أهل قريته . كل أهل القرية حتى المحجبات من النساء كانوا
يتسابقون الى الطريق ينتظرون سحابة من التراب الكثيف بانت فيما يلى شجر السنط من ناحية الشمال . الرجال يعجبون ويصطنعون
الوقار . النساء يتهامسن ويصطنعن الحياء . والأطفال يصخبون ويعبرون عن دهشتهم
بكلمات منكرة . وعندما تمر سحابة التراب يزفها الجميع مصفقين . ويرددون "
الكمبيل أهه .. الكمبيل أهه " . منذ أن كان طفلا كان مرور سيارة فى ردائها
الترابى الكثيف عرسا تزفه القرية على قارعة الطريق يقولون أن الزفة كانت تتكرر كل
عام أو كل نصف عام . مايزال الحمار مطية للذين يملكون الحمير على أى حال .
الحمار ثقيل والتراب ثقيل والحر ثقيل . وكل شئ باهت فى وهج الشمس . هو على
ظهر الحمار وبضعة من أبناء عمومته يحيطون به مرحبين به كثيرا فدون الكثير فقليلا
ثم يسكتون . بعد عشرة كيلو مترات انقطعت الأصوات إذ انقطعت الأنفاس وأصبح الموكب
جنائزيا حقا .
فى الجنائز يحدث الناس أنفسهم أحاديث حلوة . وراء قناع التجهم الجنائزى
تعربد ذكريات مرحة . كم مرة قطع هذا الطريق ذهابا وعودة من المدرسة الابتدائية .
مئات المرات . ربما آلاف المرات . على ظهر ذات الحمار ؟ لا. على ظهر أم الحمار
ذاته . فى الفجر من صباح كل يوم تحمله الى مدرسته . وتعود فتحمله الى قريته . فى
أيام الشتاء " يصرونه" فى قطعة من القماش السميك خشية البرد . ويضعونه
على ظهرها كما توضع زكائب الخضر المرسلة الى سوق المركز . ووراءه على ظهر ذات
الحمارة إبن عمه الكبير يضمه إليه حتى لا يتدحرج من فوقها . نام إبن عمه مرة فتدحرج
فى شرنقته السميكة الى أن أدركوه قبل أن يغوص الى قاع الترعة .
هذه هى القرية . حمدا لله على سلامتك …. الله يسلمكم .
قال له عمه ألف مرة أسبابا ، لم يعد يذكرها ، كانت قد الجأت جده القديم الى
هذا المكان من وادى النيل . على إمتداد النيل العتيد اختار جده تلك البقعة التى
يجرى فيها النيل تحت سفح الجبل الشرقى . البقعة التى لا وادى فيها إلا أشهر
معدودات من كل عام . تسخر القرى الأخرى من أن جده القديم كان يحب أن يجلس على حجر
ويدلدل قدميه الحافيتين فى الماء . كان لا يحب الطين . تكاثر النسل فنثروا منازلهم
على سفح الجبل . أين هذا من لبنان . صخور الجبل الشرقي جرداء إلا من الأفاعي
والعقارب والبشر . وأسراب الخفاش التى تسكن الكهوف . ولكل شئ وجهه الآخر . يحاصر
النيل القرية ثلاثة أشهر ابان الفيضان. وتصبح القرية مستقلة حقا . حتى الصراف لا
يستطيع أن يصل إليها ليجبى الضرائب . حتى رجال الشرطة لا يستطيعون الوصول إليها
ليقبضوا على المجرمين . أما البريد ، أما الأطباء ، أما المعلمون ، أما الصحف ،
فلا تأتى إليها فى أشهر الفيضان . لا، ولا فى غير أشهر الفيضان . تلك من عناصر
الحياة التى لا تغادر المركز جنوبا فى أى حال . الفرصة إذن مناسبة . حفلات الطهور
وحفلات الزواج كلها فى أشهر الفيضان . ما دامت أقدام جباة الضرائب والشرطة قد
انقطعت فليفرح الناس . وتنقضى الأشهر الثلاثة فى عرس متصل . وأصبح ذلك تقليدا لم
ينقطع إلا فى صيف 1967 . كان ذلك تعبير الفلاحين الصامت عن مرارة الهزيمة .
تلك قفزة طويلة …
نحن فى صيف 1946 . القرية محاصرة بالمياه . حمل " الأفندى " على
طوف من البوص الى منزل أهله ، وشارك فى أعراس العام . ورأى نفسه مرة أخرى فى مئات
الأطفال العرايا الذين يعبثون ويتعابثون فى لجة المياه العكرة ويصطادون صغار
الضفادع . لم يغرق إلا واحد . عندما كان طفلا صغيرا كان يغرق الكثيرون . ويموت
الكثيرون من لدغات العقارب . يدفن الأطفال فى السفح ولا تنقطع الأفراح . لا يحزن
الناس فى الصعيد على من يموت قبل السن المفيد . قبل أن يرعى الماعز أو يحمل الفأس
أو يسرق من القرى المجاورة أو يجيد إطلاق الرصاص .
" الأفندى " فى هذا العام رجل من رجال القانون . أضيف الى تقاليد
القرية تقليد التحكيم؛ ما بين عرس وعرس تكاد تقوم أسباب جنازة . كل الخصوم يطرحون
على " إبنهم " ما يختلفون فيه ، انه إبن الطرفين" الخصمين"
وعليه أن يكون عادلا . كل أب يرى عدالة ابنه فى طاعته . عليه أن يقضى لصالح
الطرفين ، الخصمين . مستحيل . وتكاد تنقسم القرية على مدة صحة نسبته إليها . لو
كان يملك مائة جنيه لا أكثر لأثبت لهم أنه
إبن مطيع لكل منهم . وفيم يتخاصم الجوعى العرايا الذين اختار جدهم تلك البقعة
الجرداء حيث يتصل الماء بالجبل ؟ ثمار موسم زراعة الشتاء . ولا يختصمون جميعا فيما
يزيد عن مائة جنيه . وهم فى هذا يقتتلون حتى الموت فى كثير من الأوقات . يقتل فى القرية رجل من أجل جحشه
الذى قضم بصلة . ويموت قاتله ثأرا . إنهم يتعاملون مع الحياة على أساس قيمتها
الحقيقية . وقيمة الحياة فى القرية لا تساوى جحشا أو بصلة . قبل أربعة
أعوام كان هنا ورأى أهله يتساقطون موتى فى أماكنهم ويحملونهم بالعشرات الى سفح الجبل . بلا جنائز . كثر الموتى فاستهلكت جنائز الأولين منهما فى البيوت من بن
وخبز وجبن فأصبح الحزن حقيقة . أصبح حزنا صامتا بدون طقوس . أصبح حزنا على الموتى
وعلى الأحياء ، وتساوت المقبرة والبيت الفارغ مما يملأ البطون . كان ذلك عام
الملاريا . المرض الذى يعالج بالشبع . امتد الى قرية الجوعى فرأى أهله يحملون الى
المقابر بالعشرات . ولم ير أبدا ، أبدا ، أبدا ، طبيبا أو ممرضا أو حتى دواء . حتى
" مأذون " القرية المكلف بقيد المتوفين مات فلم يكتب أحد أسماء الذين
ماتوا . فلما أفتى أهله أن كلوا أى شئ تجدونه ذلك هو الدواء لم يأكلوا أبقارهم ولا
أغنامهم ولا دجاجهم . وهل يأكل الناس أنفسهم . فى غيبة الأرض يستوى الإنسان
والماشية غلاء فى سوق النفوس . فانطلق الشباب يصيدون الثعالب من شعاب الجبل . وأكل
بعضهم ثعلبا مشويا ثم حمد الله على أن " الضرورات تبيح المحظورات ".
***
الهمامية . تلك القرية .. منحها السد العالي واديها . ألجم
النيل وحكم طوفانه فانحسرعن الأرض من أجل البشر .
فنزل أهل القرية من شعاب الجبل يزرعون الأرض الخصيبة ويبعثون بأولادهم الى
المدارس الثانوية لأن فى الهمامية مدرسة ابتدائية ومساكن للمعلمين والمعلمات .
وشباب الهمامية يلعبون النرد فى ناديهم الرياضى وهم يتابعون برامج التليفزيون بعد
أن ترك كل واحد منهم مذياعه (الترانزستور) فى منزله . فى الموقع الذى سبق أن وقف
فيه الركب الجنائزى عام 1946 مستشفى صغير(وحدة صحية) فيها طبيب مقيم وصيدلية
تمنح العلاج والدواء بدون مقابل . بجوارها صرح من الأسمنت المسلح يحمل على رأسه
مخزنا من المياه النقية ليشر أهل القرية ماء بعد أن كانوا يشربون طينا . أما فى
مدخل القرية فمجمع استهلاكى يمد أهلها بما يريدون من بضائع فلم يعد أحد يذهب الى
السوق على ظهر حمار . أما المقهى المجاور فلينتظر فيه أولئك الذين يريدون أن
يركبوا "الباصات " الى المركز أو الى مشاهد السينما فى مدينة أسيوط ثم
يعودون . وفى منزلنا القديم تتكدس المخصبات والبذور المنتقاة توزعها "
الجمعية الزراعية التعاونية " على أهل القرية الذين أصبحوا زارعين . فى
القرية مكتب للبريد . وفى القرية هاتف " تليفون " غير هاتف العمدة . وفى
القرية مئات من الفتيان والفتيات الذين يغادرونها فجر كل يوم بسيارات تنتظر الى
حيث يعملون أو يتعلمون .
كل شئ قد تغير وانتقلت قريتى من عهد
المماليك الى القرن العشرين .
*****
القاهرة عام 1977
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق