بظهور وقبول مبدأ "سيادة القانون" تنتهي مرحلة الاستبداد المتخلف ولكن لا ينتهي تاريخ الاستبداد.
في مرحلة ما قبل "سيادة القانون" كان
الاستبداد المتخلف قائما على أساس الاّ ضرورة لوجود قانون أصلا. تغني عن وجوده
العلاقة الاسرية أو حكمة رجال الدين والامراء الذين يمثلون جميعا كلمة " الله
" في الأرض ثم يسترون استبدادهم بالحق الإلهي او العناية الإلهية.
اما مرحلة ما بعد "سيادة القانون" فان الاستبداد يقوم داخل مجتمعات علاقات الناس فيها مصوغة في نظام قانوني يتضمن
مجموعة كبيرة ومتنوعة من القواعد العامة الآمرة الناهية المكملة المفسرة تتدرج في
قوتها الملزمة من أول اللوائح الادارية الى قمة الدستور. وتتضمن تلك القواعد جزاء
جنائيا قد يصل إلى حد الاعدام او مدنيا يصل إلى حد نزع الملكية او اجرائيا يصل الى
حد بطلان الارادة. وتقوم في المجتمعات سلطة لها حق ايقاع الجزاء أو ضمان نفاذ
القانون، بالاكراه اذا لزم الامر. هنا تكون كل تصرفات الاشخاص، كل الاشخاص،
الطبيعيين والاعتباريين محكومة بالقواعد القانونية التي تضبط هذه التصرفات. ولا
يكون شخص، اي شخص، فوق القانون، بمعنى ان يكون مباحا له مخالفة القانون بدون
التعرض لجزائه...
وفي ظل "سيادة القانون" لا يعتبر خرق
القانون استبدادا كما قد يتبادر الى الذهن. الحاكم الذي يخرق دستورا قائما ليعود
الى لعب دور رب الاسرة أو إلى استلهام القرارات من وحي السماء لا يعتبر في ظل
"سيادة القانون" حاكما مستبدا. انه مجرم. وتحتفظ القوانين عادة باسم
فظيع لجرائم خرق الدستور: الخيانة العظمى. ويرتب عليها القانون عقوبات جسيمة على
رأسها الاعدام. ذلك لان "سيادة القانون" لا تعني ان القانون لا يخرق أو
أنه غير قابل للخرق. بل هو يخرق كل يوم في كل مجتمع. يخرقه المجرمون. وكل نظام
قانوني يتضمن مجموعة من القواعد القانونية الخاصة بتنظيم ضبط الجرائم وتحقيقها
ومحاكمة مرتكبيها وتوقيع العقوبات عليهم غرامة او حبسا او سجنا او اشغالا شاقة او
إعداما. ولا يقال عن احد من هؤلاء " مستبد " بل يقال مجرم اثيم.
والواقع اننا عندما نكون في مواجهة حاكم او جماعة من الحاكمين لا يلتزمون القانون السائد في المجتمع الذي يحكمونه، ويستمدون سلطتهم من قوتهم الباطشة او من قوة باطشة يحكمون لحسابها لا نكون في مواجهة "استبداد" بل نكون في مواجهة خروج اجرامي على القانون. نكون في مواجهة قوة مادية مؤثمة.
يقول فقيها القانون الدستوري "بارتلمي" و "دوزان"
حل تلك المشكلة قد سبق اليه "لوك" في كتابه عن" الحكومة المدنية"
عندما تحدث عن مبدأ الثورات فقال: "ان الذي يستعمل القوة اولا ضد أحكام
القانون يضع نفسه بهذا في حالة حرب مع المعتدى عليه. ومن هنا فان كل الروابط
والالتزامات تقطع. ويسقط كل حق الا حق الدفاع عن النفس. ويصبح الشعب هو الحكم فيما
اذا كانت الحكومة التي ولاها السلطة قد اعتدت عليه ام لا " (مطول القانون
الدستوري ــ 1933).
ويقول جان دابان في كتابه "الدولة
والسلطة": "عندما يتصرف الحاكمون تصرفا يناقض غاية الدولة او يسيئون
استعمال سلطاتهم الدستورية لا يكون من حقهم ان يظلوا حكاما ويتعين عزلهم من
وظائفهم ولو بالقوة اذا لزم الامر. ولا يهم الا يكون في القانون الوضعي اعتراف
بهذه الحقوق الطبيعية ". وبمثل هذا يقول فقهاء القانون هوربو، وجيني، وبوردو،
و واهرنج، وكبير فقهاء القانون الجنائي جارو الذي قال: " ان ما يكون جريمة
مقاومة السلطة هو عصيان القانون ومخالفته. وليست القوة التي تستعمل ضد رجال السلطة
الا الأداة الخارجية التي تظهر من خلال ذلك العصيان وتلك المخالفة. فاذا ما حدث ان
لم يكن تصرف الموظف العام تنفيذا للقانون سواء بخروجه عن حدود وظيفته او باساءة
استعمالها، فانه يرتكب عملا تحكميا للاضرار بالمواطن ويكون الاخير، اذا ما قاومه،
لا يقاوم نفاذ القانون بل يقاوم خرقه " (مطول القانون الجنائي ـ الجزء
الثاني).
الدكتور/ عصمت سيف الدولة ـ كتاب الاستبداد الديمقراطى
فصل الاستبداد المتخلف ـ الصفحات 45 ــ 47