كيف
تتكون الأمم ؟
الدكتور / عصمت سيف الدولة
إن أية محاولة "لتغيير الواقع"
يجب ان تبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الاجابة عن السؤال: من
نحن؟ وما هو مجتمعنا؟ فحينها لن تكون عملية التغبير
تجريدا. لن تكون هناك مشكلات بل مشكلاتنا، ولن تكون هناك قوى بل قوانا، ولن تكون
هناك معركة بل معركتنا. ولن يكور هناك أعداء بل أعداؤنا، ولن تكون هناك حرية بل
حريتنا... الخ. كل شيء سيكون اكثر وضوحا وتحديدا لأنه منسوب الى مجتمع واضح ومحدد.
فكيف يمكن ان نكتشف الحقيقة من امر مجتمعنا الذي ننتمي اليه؟
بمعرفة كيف تتكون المجتمعات البشرية.
***
تطبيقا " لقوانين التطور الانسانى"
انه إذا اجتمع إثنان وتطورا معا، خلال الزمان، فإن هذا يعني أن ثمة مشكلة، أو
مشكلات مشتركة بينهما لا تحل إلا بارتباطهما و تطورهما معا. وهما يحلان تلك
المشكلة أو المشكلات عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما ما هي المشكلة
المشتركة وكيف نشأت. وتبادل الفكر بينهما فيعرف كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في
كيفية حل المشكلة. وتبادل العمل، أي مساهمة كل واحد منهما بجهده في حل المشكلة
المشتركة و إشباع حاجتهما المشتركة .
والإضافة إلى الاثنين، خلال الزمان، تمد أبعاد
المجتمع الصغير، أو الجماعة، على مستويات ثلاثة :
إمتداد أفقي حيث يتعدد الناس وحيث يحمل كل فرد
حاجة معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الأفراد. وامتداد
رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلي الحاجة الجماعية أو المشتركة. واتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية و
جماعية جديدة تضاف إلي ما كان موجودا وتكسب كل مشكلة أولوياتها، في الحل بقدر ما
تكون حادة ومشتركة... وهكذا.
وقد تكون الرابطة الأولى التى جمعت بين اثنين هى
الاجتماع على حل مشكلة "حفظ
النوع" التى يؤدى حلها الى أن يضاف الى الاثنين ثالث فتوجد الأسرة ثم
العائلة ثم السلالة... الخ . تلك وحدة الأسرة تظل
واقعا مشتركا بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز التعدد ـ في الزمان ـ ما يميز
الناس بأصلهم الواحد فتتوه الأنساب المشتركة في الكثرة . غير ان مجرد اجتماع اثنين
، ولو على مشكلة حفظ النوع، ينشئ مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما، أي أنها وليدة
التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما ـ كل منفرد بذاته ـ في الوقت
نفسه، مضمونها كيف يفكران ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل مشكلتهما الأولى . وقد
حلت تلك المشكلة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها الانسان ونعني بها "اللغة". فعن طريق
اللغة أمكن الوصول ـ بين المتعددين ـ إلى وحدة الإدراك والفكر والعمل لمواجهة
المشكلات المشتركة. وباللغة وجد التطور الاجتماعي أولى أدواته فانطلقت كل أسرة
تواجه ـ مجتمعة ـ ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو
بالتعدد، وتتعدد المشكلات، وتتنوع في مضامينها، بحيث تتجاوز في اتساعها، وفي
مضمونها، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن أن تجمع جهد كل الأسر والعشائر ، لحل
المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق مصالحها المشتركة، فتتكون المجتمعات القبلية
حلا لمشكلات مشتركة بين أفراد كل قبيلة، وتكون القبيلة بذلك طورا جديدا، ناميا،
يتجاوز بمقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة .
فقد أتى
على الإنسان حين من الدهر، استنفذه في الصراع ضد الظروف الطبيعية للحصول على ما
يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد . وكان شكل صراعه، متابعة ثمار الطبيعة المتاحة
تلقائيا الى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث يجدها، إلى أن تنضب فيهجرها
إلى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييرا للظروف المادية ( الطبيعية )
بالانتقال من مكان إلى آخر. وبالهجرة ، وخلالها ، إلتقاء بجماعات أخرى تسعى وراء
الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر إنتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة أحدهما يدخل
مرحلة من التطور بدأت بحل "مشكلة
التزاحم" فيستقر على الأرض ويبدأ في
مواجهة المشكلات الجديدة التى تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر
عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب
ونبال.. الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة و إشباع حاجاتها
المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصرا عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر
والسلالات والعشائرـ تدريجيا ومن خلال مواجهة المشكلات ذاتها ـ لتكون قبائل. أي
لتكون بكثرتها ومقدرتها أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر
والعشائر في المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد
وعادات لضبط سلوك الجميع ويحتكمون إليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم جميعا نصر
مشترك ضد عدو مشترك فيمجدون انتصار" قبيلتهم"على الطبيعة وعلى الأعداء
شعرا وغناء وألحانا... الخ إلى أن ينضب رزق الأرض، أو يغلبوا على أمرهم، فتبدأ
مرحلة جديده من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة يصاحبها قتال جديد... الخ
.
وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة
داخليا . مهاجرة ، مقاتلة دائما .
ذلك هو الطور القبلي
من المجتمعات: داخل المجموعة الإنسانية الواحدة ، تنفرد كل جماعة وحدة قبلية
متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها
وثقافتها القبلية . ولا تميزها عن غيرها " الأرض " التي تعيش فيها،
لتبادل المواقع من الأرض كرا وفرا خلال الصراع القبلي .
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال
أحقاب طويلة من الهجرة المقاتلة، اهتدت بعض الجماعات والقبائل الى الأرض الخصيبة
وأودية الأنهار فاستأثرت بها حلا لمشكلة ندرة الرزق التي كانت تعانيها بالهجرة من
مكان إلى مكان. ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائيا، بل " استقرت
" على الارض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات
ولم يعد من الممكن الحديث عن"التاريخ الإنساني" أو"تاريخ البشرية"
بل لا بد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها الخاصة.
فالجماعات
القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحله تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم؛ التكوين القومي، لتتميز بهذا
الاستقرار على أرض خاصة عن الطور الذي سبقه؛ الطور القبلي. غير أن هذا لا يعني
أنها قد أصبحت أمما. فنحن لا نقول إن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في
منطقة معينة من الأرض قد أصبحت أمة. بل ننظر إلى المجتمعات خلال تطورها الجدلي
وحركتها التي لا تتوقف من الماضي إلى المستقبل. فالأمة تدخل مرحلة التكوين
باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض
معينة ومشتركة و بها تحل مشكلة "الهجرة"
وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي. تم تبدأ في التكوين وتتحدد
خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها. وقد تكون أول مشكلة
واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا الاستقرار. أي حماية الأرض
المشتركة. ذلك لأن القبائل لم تستقر كلها في وقت واحد. بل بينما استقر بعضها و دخل
مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معا، تغزو أطراف
الأرض التي استقر عليها الأولون فتقيم فيها مختلطة بسكانها الأصليين مبتدئين معا
مرحلة من الحياة المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكون منهم أمة واحدة. أو محاولة
غزوها فمنحسرة عن حدودها. وقد يثير الغزاة حروبا مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة
المغيرين والقضاء عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض الخاصة فتمتد حدودها ليشملها
جميعا الاستقرار مقدمة لتكوين أمة. وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة
فترات طويلة من التاريخ عوقت تطور الجماعات المستقرة إلى أن تكون أمما مكتملة .
وان كانت قد أسهمت ـ من ناحية أخرى ـ في أن يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة
المشتركة، رواسب الطور القبلي فيلتحموا معا خلال العمل المشترك لحماية الأرض
المشتركة في مواجهة العدو المشرك. وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع
حول الاختصاص بها تكون تلك الحدود ذاتها حدودا لما يليها من أرض خاصة بجماعات
مستقرة أخرى .
إلى هنا
تكون قد توافرت للجماعة المستقرة على أرض معينة ( الأمة
في دور التكوين ) وحدة اللغة ووحدة الأرض المشتركة. غير أن هذا لا يميزها
عن غيرها من الجماعات المستقرة التي لها بالضرورة لغتها وأرضها. إنما تكتمل خصائص
الأمة خلال تكوينها القومي المنطلق من استقرار الشعوب على أرض خاصة فتفاعل الناس
مع الناس مع الطبيعة ينتج حصيلة مادية (إنتاج زراعي، إنتاج صناعي، أدوات إنتاج،
مبان.. الخ) وتفاعل الناس في المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من الأفكار والمذاهب
والنظم والقيم والتقاليد والفنون... الخ. والنظر إلى هذه الحصيلة من تفاعل الإنسان
مع الطبيعة ومع غيره في المجتمع نظرا إلى ما يسمى"الحضارة". فإذا أضيف
إلى هذا ـ في دور التكوين القومي ـ أن الطبيعة محددة بأرض معينة متميزة عن غيرها
" وليست ممتازة " وان الناس قد تحددوا بشعب معين متميز عن غيره ( وليست
ممتازا ) كان مؤدى هذا التحديد أن حصيلة تفاعل الناس مع أرضهم الخاصة وفيما بينهم
ستكون متميزة في مضمونها المادي والثقافي عن غيرها، أي تكون متميزة، "حضاريا
" وتكون بذلك قد اكتملت "أمة".
وعندما تكتمل الأمم وجودا قد تظل فلول من
الجماعات القبلية محاصرة أو محشورة على أطراف الأرض الوعرة فيما بين الأمم. أو
متخلفة في أماكن متفرقة داخل الأمة. وقد تحاول من حين إلى آخر أن تكمل مسيرتها
التاريخية مستقلة وأن تدخل هي أيضا مرحلة للتكوين القومي خاصة بها، وهذا لا يكون
إلا بأن تقتطع لنفسها جزءا من الأرض تختص به. ولكن الأمر يكون قد حسم تاريخيا
باختصاص الأمة التي سبقت تكوينا بالأرض المعينة المشتركة حتى أقصى أطرافها بصرف
النظر عمن قد يكون مقيما على أرضها، وفي كنفها من أفراد أو أسر أو عشائر لا ينتمون
إليها أو من يكون متخلفا من أبنائها ، لأن التكوين القومي الجديد هنا لن يكون إلا
على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخيا .
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق