يكفي أن نتصور شخصا يجد نفسه، صدفة، رب أسرة فاذا بكل ما تملك الأسرة تحت تصرفه، واذا بكل من في الأسرة من بشر تحت أمره. واذا به هو وحده الذي يفكر ويدبر ويأمر وينفذ ولا يقول الآخرون الا "آمين"، ولا يفعل الآخرون الا ما يؤمرون.
علميا سيتوقف نموه الفكري عند البداية لأن عقله لن
يجد غذاء الا اجترارا لما اكتسب في المرحلة السابقة، ما دام قد حرمه الاستبداد من
ناحيته والصمت او النفاق من ناحية الآخرين من أن يعرف ما قد يكون من قصور أو خطأ
في فكره. وهو لا يعرفه الا بالحوار، بالنقد، بالمعارضة، التي تنقل الى عقله ما
يعرفه الآخرون فتغذيه علما وتنميه فكرا وتغنيه معرفة. ومع تدفق الحياة بمعضلات
ومعطيات جديدة كل يوم، تحتاج مواجهتها الى علم ومعرفة جديدة حرمه الاستبداد منها.
يدخل "رب الأسرة" من باب الاستبداد الى ظلمات الجهل فيصبح مستبدا جاهلا.
ومع ذلك فان النظام ذاته يفرض على أفراد الأسرة أن يؤدوا ــ بطرق شتى ــ طقوس
الاشادة بعقله وحكمته ومعرفته. وقد يصل الأمر الى حد الاقرار له بالعصمة أو
عبادته. وتلك درجات ظاهرة من ادعاء الكمال تعويضا متدرجا للنقص الخفي.
ويقيم كل هذا حاجزا عقليا ونفسيا وعاطفيا بينه وبين
رعاياه فيعيش في عزلة وحيدا ولو كان فوق أسرته. فتجتمع له من الجهل والتعظيم
والعزلة كل أسباب المرض الذي يسمونه "جنون العظمة" (البارانويا) .. ولن
يكون غريبا حينئذ أن تصدر عنه أغرب التصرفات وأن تصدر عنه أغرب القرارات. سيكون
الغريب حقاً أن يهمس أحد أفراد الأسرة في أذن فرد آخر متسائلا: ماذا جرى لرب
أسرتنا لقد بدأ عاقلا؟ ولمن يستغرب شيئا من هذا ان يتذكر
رجالا في قارتنا (أفريقيا) بدأوا حكاما ثم انتهوا إلى ارباب أسر فأصبحوا مخبولين.
نموذجهم "الامبراطور بوكاسا". ليس غريبا على أي حال أن يكون الاستبداد ذهانا أو
حالة عقلية.
الدكتور/ عصمت سيف الدولة ــ كتاب الاستبداد الديمقراطى 1980
الفصل الأول: الاستبداد المتخلف صفحتى 27 ــ 28
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق