الأربعاء، 31 أغسطس 2016

الاسلام والأمة العربية

الاسلام والأمة العربية

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

1- خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع سابقة على ظهور الاسلام كانت قد استقرت مجتمعات قبلية متجاورة فى رقعة من الارض التى يحدها من الشمال البحر الابيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق ايران والخليج العربى، ومن الجنوب المحيط الهندى ، فهضبة الحبشة ، فالصحراء الافريقية  الكبرى، ومن الغرب المحيط الاطلسى . كان كل من تلك المجتمعات القبلية متميزا عن غيره بما ورثه من العهد القبلى ، أى بالاصل الخاص واللغة  الخاصة والحياة الاقتصادية الخاصة ، وبتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد ، والشعور بالانتماء القبلى . وحينما استقر كل منها فى مكانه أصبح " شعبا" ودخل كل منها ـ منفردا ـ مرحلة التكوين القومى . التفاعل الحر بين الشعب والارض المعينة لفترة تاريخية تنشئ من التفاعل حضارة قومية فتكتمل الامة وجودا. ولو طال الاستقرار بتلك المجتمعات الشعوبية لتطورت أمما متميزة. غير ان الاستقرار لم يطل بأية جماعة منها حتى تكون أمة، ولم يطل بها جميعا حتى تكون أمما متجاورة. فقد اجتاحتها موجات متعاقبة كاسحة من الغزو الخارجى اما من وسط افريقيا، او من اوروبا، أو من آسيا. كما أن موجات الهجرة الداخلية، السلمية والمقاتلة، لم تنقطع عابرة بها ومستقرة فيها. وكانت فترات الغزو تعطل نموها وتعوق تكوينها القومى بما تعيد من تكوينها البشرى : اضافة من الغزاة  أو نقصا بالإبادة أو الطرد، وبما تسببه من انقطاع فى اختصاص كل شعب بأرض معينة  اضافة بضم أرض جديدة أو نقصا بالطرد من الارض، وبما أدى اليه كل هذا من عدم توفر التفاعل الحر بين الشعب والأرض مرحلة تاريخية كافية لتنشأ وتكتمل حضارة قومية. فما أن ينحسر الغزاة أو يستقروا لينشط التكوين القومى حتى تدهمها ـ كلها أو بعضها ـ موجة غازية أخرى. واستمر هذا الوضع : فترات متتابعة من الاستقرار فالاضطراب فالغزو فالاحتلال فالاستقرار … الخ ، تحبس نمو تلك الشعوب والجماعات دون اكتمال الوجود القومى ، حتى ظهر الاسلام .
***
2-   وعندما ظهر الاسلام لم تكن أية جماعة من تلك الجماعات قد تكونت أمة. ولكنها كلها كانت قد غادرت مرحلتى التكوين الاسرى والعشائرى. ثم لم تتسق تطورا. كان أغلبها قد أصبح شعوبا متجاوزة الطور القبلى. ولكن كان من بينها من لا يزال فى الطور القبلى لم يرق الى ما بعده. فهى، جملة، كانت اما شعوبا واما قبائل. ولقد جاء فى القرآن ما يشير الى هذه القسمة الثنائية للمجتمعات فى الجزيرة العربية بين طورين اثنين من أطوار التكوين الاجتماعى : القبيلة والشعب :" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا "( الحجرات :13).
أما الذين كانوا، عند ظهور الاسلام، قد تجاوزوا الطور القبلى واستقروا شعوبا فقد كان منهم الحميريون فى جنوب الجزيرة العربية. كان منهم من يعتنقون الديانة اليهودية . وكان من بينهم كثير من المسيحيين  فلما أن أسرف ملكهم ذو نواس فى اضطهاد المسيحيين استغاث أولئك بأقربائهم من الحميريين الذين كانوا قد عبروا البحر الاحمر الى الحبشة وحولوها الى مملكة مسيحية. فاستجاب الاحباش الى دعوتهم وأغاثوهم وهزموا ملوك الحميريين (عام 552م) واجلسوا على العرش أسرة حبشية متحالفة مع جستنيان، الامبراطور الرومانى، فرد الفرس بأن تحالفوا مع ملوك حمير المعزولين، وطردوا الاحباش، وأقاموا فى اليمن حكما فارسيا (575م). فاستقر الناس " شعبا " وظلوا هكذا لم يتطوروا الى أمة بفعل خضوعهم للسيطرة الفارسية، الى أن ظهر الاسلام .
وفى شمال الجزيرة العربية كانت القبائل العربية من بنى غسان قد استقرت فى الجزء الشمالى الغربى وما يحيط بتدمر فى سورية، منذ القرن الثالث الميلادى، وأقاموا حكما تحت سيادة الامبراطورية البيزنطية، فتحولوا بالاستقرار على أرض معينة الى " شعب"، وظلوا هكذا لم يتطوروا الى أمة بفعل خضوعهم للسيطرة البيزنطية، الى أن ظهر الاسلام .
أما فى الجزء الشمالى الشرقى، فان القبائل العربية من بنى لخم كانوا قد استقروا على الارض الخصبة فيما كان يعرف باسم "العراق العربى"، وأقاموا حكما فى " الحيرة " على نهر الفرات، تحت السيطرة الفارسية، فتحولوا بالاستقرار على الارض الى "شعب"، وظلوا هكذا لم يتطوروا الى أمة بفعل سيطرة الامبراطورية الفارسية، الى أن ظهر الاسلام .
وكان الناس فيما بقى من سورية وفلسطين ثم مصر، وغربا حتى شاطئ المحيط الاطلسى مستقرين شعوبا متجاورة على الارض، وعبيدا ( بمعنى الكلمة ) للرومان منذ قرون عديدة  ولقد بلغت عبوديتهم التى كرسها القانون الرومانى أن كان للسادة الرومان فى تلك الاقطار مدن خاصة بهم محرمة على غيرهم من السكان، تأكيدا لعزلة السادة عن العبيد. منها مدينة " أنتيموبوليس" التى بناها فى مصر الامبراطور الرومانى هادريان الذى حكم عام 130 م . فاستقرت تلك الجماعات شعوبا، ولكن أيا منها لم يتطور الى أمة بحكم سيطرة الامبراطورية الرومانية، الى أن ظهر الاسلام .
أما ما تبقى بما نعرفه الان بالوطن العربى فكان عامرا بمجتمعات قبلية لم ترق بعد حتى الى مستوى الشعوب. ولم يكن تجمع بعض القبائل حول الواحات الكبيرة أو الصغيرة أو عند ملتقى طرق القوافل التجارية أو فى المناطق الجبلية الوعرة سواء فى الجزيرة العربية أو شمال العراق مما كان يعرف باسم "ميزوبوتاما" أو فى مشارف صحراء أفريقيا الكبرى ذا أثر فى تكوينها القبلى. فقد كانوا يتجاورون اقامة أكثر دواما من القبائل الجائلة، ولكن كقبائل متميزة، كما كان الامر فى مكة. وكانوا فى كل مكان لا يكفون عن الحروب القبلية، أو لا يكادون يكفون، الى درجة انهم ـ من أجل اتاحة فرصة لاتمام الصفقات التجارية بدون قتال ـ تواصوا بتحريم القتال فى مناطق التبادل التجارى فى أشهر معدودة من السنة ، ما أن تنتهى حتى يعودوا جميعا، بعد تلك الهدنة الاستثنائية، الى القاعدة القبلية : التضامن بين افراد القبيلة ظالمين أو مظلومين والعداء لقبائل الاخرى بسبب أو بدون سبب.
***
3-   من بين تلك القبائل العربية كانت قريش قبيلة فى مكة . حملت اسم جدها " فهر" الذى كان تاجرا فلقب بقريش، أى التاجر باللغة التى كانت سائدة فى القرن الثالث الميلادى . ومن بنى فهر كان قصى الذى توفى عام 480 م . ومن بنى قصى كان هاشم الذى توفى عام 510 م . من بنى هاشم اولئك كان محمد بن عبد الله الذى اختاره الله ليبلغ رسالة الاسلام الى الناس جميعا ( عام 610م) ." الله أعلم حيث يجعل رسالته "(  الانعام :124).
***
4-    بعد مرحلة تكوين وإعداد ومعاناة لنشر الدعوة فى مكة بدأ انتشار الاسلام من المدينة يحمله المسلمون الى الكافة . ومن المدينة بدأت مسيرة الثورة "الحضارية الاسلامية" . ان فى هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة الى المدينة ( 24 أيلول/  سبتمبر 622م ) من شجاعة القرار وحكمة التدبير ومهارة الاداء ما أفاض  فى بيانه أغلب الذين تحدثوا عن الهجرة . وفى هجرة المسلمين من مكة الى المدينة من عمق الايمان وثراء التضحية  ومغالبة النفس ما حفظ للمهاجرين ، على مدى التاريخ ، ما استحقوه من فضل القدوة . ولا يزال المؤرخون ذاكريه. ثم أن الهجرة قد حققت للمؤمنين خلاص أنفسهم من اضطهاد قريش فأتاحت لهم الامن على الدعوة وعلى أنفسهم . كل هذا متاح لمن يريد معرفة المزيد فى كتب السيرة والتاريخ . ننتبه نحن الى ما يتصل منه بموضوع هذا الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام : التأثير الحضارى للاسلام فى تطور التكوين الاجتماعى.
***
5-   يعلم كل المسلمين المحيطين بالسيرة النبوية أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد آخى فى المدينة بين المهاجرين والانصار ( عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الانصارى ) وغيرهما . وبين المهاجرين بعضهم مع بعض( بينه  وبين على ، وبين أبى بكر وعمر ، وبين طلحة والزبير ، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان ) وأن المؤاخاة كانت سببا مشروعا للمشاركة فى المال والارض وأسباب الحياة وحفظها . ولقد فعل الرسول ما هو أكثر من هذا أثرا فى الوثيقة المسماة "الصحيفة" . سنورد نصها كاملا فيما يلى ، ولكنا ننبه منذ الان الى أنها وثيقة تستحق كل الانتباه ، لاننا سنعود اليها فى أكثر من موضع آت من هذا الحديث . ثم انها ـ عندنا ـ شهادة ميلاد الامة العربية.

***

أول دستور

6- تقول الصحيفة : " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من محمد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ( اسم المدينة فى الجاهلية ) ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم ، انهم أمة واحدة من دون الناس . المهاجرون من قريش على ربعتهم (أمرهم) يتعاقلون بينهم ( يشتركون فى المسؤولية ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ( وذكر مثل هذا بالنسبة الى بنى ساعدة ، وبنى جشم ، وبنى النجار ، وبنى عمرو بن عوف ، وبنى النبيت ، وبنى الاوس ) ثم قال :" وان المؤمنين لا يتركون مفرجا ( مثقلا بالدين ) بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل . ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ( من اسلم على يديه ) . وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغاء دسيعة ظلم ( طلب بدون حق) ، أو اثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين . وان ايديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم . ولا يقتل مؤمن فى كافر ، ولا ينصر كافر على مؤمن ، وأن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس . وأنه من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم . وان سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله ، الا على سواء وعدل بينهم . وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا ، وان المؤمنين يبئ بعضهم بعضهم على بعض بما نال دماءهم فى سبيل الله ( يعنى أن دماءهم متكافئة ويثأر بعضهم لبعض ) . وأن المتقين على أحسن هدى وأقومه ، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن . وأنه من اعتبط ( قتل بدون ذنب) مؤمنا قتلا عن بينه فانه قود به ، الا أن يرضى ولى المقتول وان المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم الا قيام عليه ، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما فى هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الاخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه ، وأنه من نصره أو آواه ، فان عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف( توبة) ولاعدل( فدية) ، وانكم مهما اختلفتم فيه من شئ فان مرده الى الله والى محمد" .
7-   " وان اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين . وان يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين . لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم مواليهم وانفسهم الا من ظلم أو أثم فانه لا يوتغ ( يهلك ) الا نفسه وأهل بيته . وان ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف ( وذكر مثل هذا بالنسبة الى يهود بنى الحارث ، وبنى ساعدة ، وبنى جشم ، وبنى الاوس ، وبنى ثعلبة ، وبنى جفنة ) وان جفنة بطن من ثعلبة ، وان بطانة يهود كأنفسهم ، وأن البر دون الاثم ، وأن موالى ثعلبة كأنفسهم ، وأنه لا يخرج منهم أحد الا باذن محمد . وأنه لا ينحجز على ثأر جرح ، وأنه من فتك فبنفسه ، الا من ظلم ، وان الله على أبر هذا ( شاهد على صدقه ).
8-   وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة ، والبر دون الاثم . وأنه لن يأثم امرؤ بحليفه ، وان النصر للمظلوم … وان يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة . وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وانه لاتجار حرمة الا باذن أهلها . وأنه  ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث أو اشتجار يخاف فساده فان مرده الى الله عز وجل ، والى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، وان الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره ، وأنه لا تجار قري ولا من نصرها ، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب . واذا دعوا الى صلح يصالحونه ويلبسونه فانهم يصالحونه ويلبسونه . وانهم اذا دعوا الى مثل ذلك فانه لهم على المؤمنين الا من حارب فى الدين ، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم . وان ليهود الاوس مواليهم وأنفسهم مثل ما لاهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة . وان البر دون الاثم ، لا يكسب كاسب الا على نفسه .
9- " وان الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبره ، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم . وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة الا من ظلم أو أثم . وان الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم .
***
10ـ  ان هذه الوثيقة ليست قرآنا ولكنها وضعت فى ظل القرآن . وهى ليست عقدا فى المعاملات ولكنها نظام للحياة. انها " دستور" بكل المعنى الحديث لكلمة دستور . ولعلها أن تكون أول دستور وضعى عرفته البشرية . وانا لنعرف من تاريخ القوانين الموضوعة الالواح الاثنى عشر فى روما ( عام 450 قبل الميلاد) . وقبلها بقرنين أو أقل (620 قبل الميلاد) وضع دراكون قانونه فى اثينا ، وقبله بنحو خمسة عشر قرنا (2000 قبل الميلاد) كان قانون حمورابى ، ولكنها جميعا كانت بالمفهوم الحديث  للشرائع قوانين ولم تكن دساتير . اذ كانت تنظم المعاملات  بين الناس ولم تكن " نظاما" للحياة . ثم نلاحظ ـ أولاـ انها وثيقة نظام مجتمع من المسلمين ومن غير المسلمين على أسس الحياة المشتركة بينهم جميعا .  وـ ثانيا ـ أن مصدر قوتها الملزمة واستمرارها هو قبولها واستمرار قبولها ممن تنظم حياتهم . وـ ثالثا ـ انها تنظم تلك الحياة المشتركة فى منطقة جغرافية واحدة هى المدينة . وـ رابعاـ انها تنظم المعاملات فيما بين المؤمنين ( فقرة 7) ثم فيما بين اليهود ( فقرة 8) ثم فيما بين المؤمنين واليهود وتسميهم معا"أهل الصحيفة " فتشركهم فى المدينة بدون تفرقة ، ثم تلزمهم بالدفاع عن المدينة بدون تفرقة ( فقرة 9) . وخامسا ـ فانها تقيم على المدينة حاكما هو النبى عليه الصلاة والسلام  ارتضاه أهل الصحيفة ليرعى الالتزام بها ويفرض أحكامها ، بقوة أهل المدينة جميعا، على من يخرج على دستورها .
اننا هنا فى مواجهة طور جديد من المجتمعات لم  تعرفه القبائل العربية فى وسط الجزيرة من قبل . هناك تكون لأول مرة فى تلك البقاع "شعب" تتعدد فيه علاقات الانتماء الى الدين ولكن يتوحد الناس فيه ، مع اختلاف الدين ، فى علاقة انتماء جديدة . علاقة انتماء  الى ارض مشتركة . علاقة انتماء الى " وطن" . فترقى العلاقة الجديدة بالناس جميعا ( اهل الصحيفة أو أهل المدينة ) الى ما فوق الطور القبلى . وهناك استقر الناس فى وطنهم ، على أرضهم ، ولم يعودوا الى العلاقات القبلية مرة اخرى قط . وهناك سيكون جزاء محاولة نقض العلاقة الجديدة بالوطن والعودة الى العلاقات القبلية النفى من أرض الوطن . ولقد استحق الجزاء بنو قينقاع وبنو النضير . واستحقه بنو قريظة . جزاء خيانتهم جميعا فى معارك الدفاع المشترك عن الوطن المشترك " المدينة".
وهناك سيتحدث القرآن عن المؤمنين ، لا جملة ، بل حسب انتمائهم . فإما مؤمنون ينتمون الى قبائل ( الاعراب) ، وأما مؤمنون ينتمون الى شعب "أهل المدينة": " ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه "( التوبة :120) . وهناك سيتحدث القران عن المنافقين ، لا جملة ، لا حسب انتمائهم ، فإما منافقون ينتمون  الى قبائل (الاعراب) وإما منافقون ينتمون الى شعب " أهل المدينة".  "وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق"( التوبة :101) وان تلك لثورة حضارية لا مثيل لها فيما سبقها من حضارات وثورات، لا لمجرد انها كانت سلمية وهى ثورية . ولا لمجرد انها ارتقت طفرة بمجتمعات قبلية عريقة فى العصبية ، الى شعب قبل فى صحيفته ( دستوره) ان تقطع العلاقات والروابط القبلية فى بنى عوف ، وبنى ساعدة ، وبنى جشم ، وبنى النجار ، وبنى أوس ، فيصبح المؤمنون من تلك  القبائل مع المؤمنين ، ويخضعون معهم لنظام معاملات واحد، ويبقى الشطر الثانى منهم جميعا، ينظمون معاملاتهم على ما كانوا . ليست العلاقات القبلية هى وحدها التى قطعت لتفسح مكانا حضاريا لعلاقة الانتماء الشعبى الى الوطن ، بل قطعت العلاقات العشائرية ، والاسرية ، والزوجية ، والابوة ، والبنوة ، والاخوة . فوق هذا وذاك ، وأكثر منه دلالة على الطفرة الحضارية ، أن تلك العلاقات الجديدة قد شملت العلاقة الدينية فى الوطن كما شمل شعب المدينة  المسلمين وغير المسلمين ، بدون أن يعوق ذلك تجاوز العلاقة الدينية العلاقة الوطنيه الى الناس جميعا . ففى الوقت الذى كان الرسول يسوس شعب المدينة  بما جاء فى الصحيفة ، كان يبعث عبد الله بن حذافة السهمى برسالة الى كسرى امبراطور فارس ، وحاطب بن أبى بلتعة الى المقوقس عظيم القبط فى مصر ، ودحية الكلبى الى هرقل امبراطور الروم ، وعمرو بن أمية الضمرى الى النجاشى ملك الحبشة يدعوهم جميعا الى الاسلام. الاسلام الذى تطورت به القبائل الى شعب وتعايشت فيه الاديان ، وسوى بين الناس على أساس ما ارتضوه من دستور فى المدينة .
وإنا لندرك أبعاد تلك الثورة الحضارية اذا ما لاحظنا أن جزءا كبيرا من البشر فى افريقيا واستراليا وجنوب شرقى آسيا ما يزالون حتى اليوم يعيشون فى الطور القبلى  بالرغم من محاولات تطوير القبائل الى شعوب عن طريق حصرهم على أرض واحدة وحصارهم داخل حدود دولة واحدة .
***
 11- وهناك بدأت الامة العربية جنينا فى رحم أول مجتمع ( شعب) أوجدته ثورة الاسلام الحضارية ، ولدت فيه ، وتمت معه ، واكتملت أمة عربية به ، فقد فتح المسلمون مكة عام 630 م وقضوا على القبائل المرتدة فى عهد أبة بكر ، ثم ما ان جاء عام 633 حتى كانت كل القبائل  والشعوب فى الجزيرة العربية قد توحدوا فى شعب واحد ، وفتحت دمشق عام 635م وبيت المقدس عام 638 وما بقى من  الشام قبل نهاية عام 640م ، وقبل أن ينتهى عام 643 كان قد تم فتح مصر وفارس . وفتحت برقة (670م) وامتد الفتح حتى شمل المغرب العربى كله (698م) ، ومن هناك تم فتح اسبانيا ( الاندلس) عام (710م ) .
12-   وانا لنعلم أن الفتح الاسلامى قد امتد شرقا وجنوبا الى أبعد من فارس ، وانه قد شمل قبرص ورودس (652ـ 655م) وكورسيكا (809م) وسردينيا (810م) وكريت (810م) وصقلية (832م) ومالطة (870م)… الخ ، غير أننا نكتفى بما سبق لانه يلزم ، ويكفى ، لمعرفة كيف كون الاسلام الامة العربية وهو يفتح تلك الاقطار منطلقا من المدينة الى كل الاتجاهات . الا أن هذا لا ايغنى عن معرفة ما يلزمنا من مد اسلامى جاء من خارج الارض العربية متجها اليها .
***
13-  ففى القرن السادس الميلادى انطلقت مجموعات قبلية تركية من شمال وسط آسيا حيث اقليم بحيرة بيكال نحو الغرب . كانت كل مجموعة تحت قيادة "خان". ومازالوا يتقدمون مقاتلين حتى استولوا على فارس بقيادة طغرل بك ، وارسلوا وفدا الى الخليفة العباسى القائم بأمر الله يبلغونه انهم مسلمون ، فاتصل بهم واتصلوا به (1055م) . بعد هذا التاريخ بقرنين تقريبا ، اى فى مستهل القرن الثالث عشر ، اكتسحت العالم المعروف حينئذ ، موجة مغولية تتارية اخرى بقيادة جنكيز خان ، فاستولت على الصين وفارس وتركستان وارمينيا والهند حتى لاهور ، وروسيا والمجر وبولندا حتى سيليزيا (1241م ) . واجتاحت العراق وسورية وفلسطين ولم تنكسر موجاتهم القبلية الغازية  المخربة الا عام 1260 حين هزمهم جيش عربى بقيادة حاكم مصر، الظاهر بيبرس، فى معركة عين جالوت ، وكانت تلك نهايتهم . غير ان اثارهم لم تنته . فقد دفعت موجاتهم الكاسحة احدى ا لقبائل التركية ، عرفت فيما بعد بالاتراك العثمانيين من تركستان فاستلوا على آسيا الصغرى ( تركيا حاليا ) ثم عبروا مضيق الدردنيل الى مقدونيا والصرب وبلغاريا وفتحوا القسطنطينية ثم انثنوا الى الارض العربية وغزوها واستولوا على الحكم فى الامبراطورية الاسلامية التى عرفت منذ ذلك الحين (1506ـ 1918م ) بالامبراطورية العثمانية .
***
14-   يكفى مما سبق ويزيد فنقول: عندما توقف المد الاسلامى  كان قد ضم اليه مجتمعات مختلفة فى درجة تكوينها الاجتماعى، وبالتالى كان أثره الحضارى فى كل منها مختلفا . كانت منها مجتمعات تجاوزت الطور القبلى والشعوبى وكونت حضارتها القومية . مثالها فارس وأسبانيا .
        فقد كانت فارس موحدة شعبا منذ أن حكمها أردشير (226م) حكما مركزيا بيروقراطيا كثير الفروع وأعاد اليها الديانة القومية ( الزرادشتية ) وقاد الشعب الفارسى لاسترداد الاقاليم التى كان الاسكندر الاكبر قد استولى عليها، وكانت ما تزال تحت حكم الملوك الاكمينيين . وقد استردها فعلا ووحد الفرس ارضا وشعبا من نهر جيحون فى الشمال الى العراق فى الغرب. وفى عهد خسرو الاول (531ـ 579م) المعروف باسم كسرى أنوشروان كان الشعب الفارسى يتمتع بنظام دقيق للرى والسدود، ويمتلك جيشا نظاميا ومجموعة من القوانين العامة وكانت الحضارة الفارسية قد قاربت أوج ازدهارها. ثم جاء الاسلام وفتح فارس فى عهد يزدجرد الثالث عام (634م ) بعد أربعة قرون من استقرار الشعب الفارسى على أرضه وتفاعله معها تفاعلا حرا انتج حضارته الخاصة .
وفى أسبانيا كان الشعب الاسبانى يوم الفتح الاسلامى عام (711م) قد قضى نحو ثلاثة قرون من الاستقرارعلى أرضه والتفاعل معها منذ حكم الملك تيودوريك الثانى (456م) تفاعلا حرا أنتج خلالها حضارته الخاصة.
أما فيما يعرف الان باسم الوطن العربى فان الاسلام ، بعد أن طور سكان الجزيرة العربية من قبائل الى شعب عربى ، انطلق الى ما يجاوره فالتقى واختلط بمجتمعات كانت قد تجاوزت الطور القبلى واستقرت شعوبا وان كانت السيطرة الفارسية والرومانية قد عوقت تطورها فلم تنشأ فى أى منها حضارة قومية  ( كانت الحضارة الاشورية قد توقفت عن النمو منذ الغزو الفارسى ، وكانت الحضارة الفرعونية قد توقفت عن النمو منذ الغزو الرومانى ) هذه الشعوب أكمل الاسلام تكوينها امة واحدة : رفع عنها العبودية الفارسية والرومانية اولا . ثم الغى فيما بينها الحدود ، ثانيا . ثم قدم لها لغة مشتركة  ثالثا . ثم نظم الحياة فيها طبقا لقواعد عامة واحدة ( القواعد الاسلامية ) رابعا. ثم تركها تتفاعل تفاعلا حرا مع الارض المشتركة قرونا متصلة لم توجد خلالها سدود أو قيود على حرية الانتقال والمتاجرة والعمل والتعليم والتعلم . ثم جمعها معا لتدافع عن الارض المشتركة فى  عين جالوت ، ثم على مدى قرن من الحروب المستمرة ضد الغزو الصليبى . ونحسب أن فى ذاك القرن كانت الشعوب قد انصهرت فى نيران المعارك فاكتملت الامة تكوينا . وهكذا صنع التاريخ الاسلامى من تلك الشعوب امة واحدة هى الامة العربية ، وصنعت الامة العربية فى ظله حضارتها العربية .
***
15-   بهذا تميزت الامة العربية عن الامم والشعوب الاخرى المسلمة ، تميزت باللغة العربية ( لغة القرآن) لغة قومية مشتركة  واندثرت اللغات الشعوبية . هذا بينما لم تأخذ الامة الفارسية من لغة القران الا حروفها . وقد حدث بعد قرنين من الفتح الاسلامى وعلى مدى نحو قرن كامل ، حين استولت  الاسرة السامانية (874م ـ999م) الحكم فى فارس ان عادت اللغة الفارسية الى سابق وضعها كلغة قومية . اما الامة الاسبانية فبعد فتح اسلامى استمر قرونا عدة لم تحتفظ لغتها القومية الا بمفردات محدودة من لغة القران. وتميزت الامة العربية بوحدة الارض التى امتدت من حدود فارس وحدود تركيا وحدود اسبانيا (الاندلس) ، وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الاخرى، حتى عندما كانت تلك الارض ومعها فارس وتركيا واسبانيا تحت حكم الخلافة . فقد كانت الارض العربية ، منذ فتح مكة والجزيرة مقسمة الى ولايات أو أقاليم على كل منها أمير، ثم بعد ذلك وال أو سلطان يعينه ـ ولو اسميا ـ الخليفة ، ولم يحدث أبدا منذ الفتح الاسلامى حتى الاستعمار الاوروبى أن قامت بين تلك الولايات حدود أو سدود أو قيود . هذا فى حين ان اسبانيا تحت الحكم الاموى قد استقلت بحدودها منذ (756م) ، وان فارس قد استقلت منذ ان استقل بها محمود بن سبكتكين الغزنوى (998ـ 1030م) .
ولقد تصارع الخلفاء والحكام والامراء والولاة دهرا على السلطة فى الارض العربية التى اصبحت القاهرة بعد دمشق وبغداد، عاصمة الخلافة فيها سواء كان الخليفة عباسيا قادما من الشرق أو فاطميا قادما من الغرب، ولكن لم يحدث أبدا أن خليفة أو حاكما أو أميرا أو واليا قسم الارض او البشر او اراد تقسيمها بل كان طموح كل منهم، حتى الفاشلين، ان يكونوا حكاما على تلك الارض الواحدة. وفى هذه الارض الواحدة انصهرت الشعوب. حتى من خلال الصراع ، وتفاعلت فصنعت من أرضها ، وبلغتها ، انماطا من الفكر والمذاهب والفن والعلم والتقليد وعناصر الحضارة الاخرى ما كان حضارة عربية خالصة حتى عندما كان الاسلام يطبع حضارتها وحضارات الامم والشعوب الاخرى بطابع اسلامى مميز .
***
16- ولن نلبث أن نرى أثر هذا حين تتفكك دولة الخلافة العثمانية. فيسفر العالم الاسلامى عن تلك الامم التى دخلها الاسلام وهى امم مكتملة التكوين ، فإذا بها هى هى، كما كانت ، امما متميزة بشعبها وأرضها ولغتها وحضارتها القومية الاصلية وان كان الاسلام قد أضاف اليها حروف اللغة ، كما فعل فى فارس وهذب حضارتها القومية . ولكنه يسفر عن تلك الشعوب التى كان لكل منها لغة خاصة وثقافة خاصة عندما دخلها الاسلام لاول مرة ، فاذا بها شعب واحد يعيش على أرض خاصة ومشتركة ، ولغة واحدة وثقافة واحدة، اذا بها قد اكتملت فى خلال القرون التى قضتها معا فى ظل الاسلام امة عربية واحدة .
اما المجتمعات القبلية من العثمانيين التى لم تسفر شعبا فى تركيا الحديثة الا بعد أن كانت الامة العربية قد اكتملت تكوينا، او كادت، فانها ستأخذ من لغة القرآن حروفه ، ثم يضيق وعيها القبلى بعمق وثراء ورحابة الفكر الاسلامى العربى فتختار واحدا من المذاهب لتفرضه اسلاما ( المذهب الحنفى ) فيبقى تراثها الاسلامى مذهبيا حنفيا. وعلى مدى قرنين، قبل ان تكتمل امة " طورانية " فى اواخر القرن التاسع عش، كان نموها القومى يتم خلال تفاعل قوى ومؤثر تأثيرا مباشرا مع الحضارة الاوروبية  الناهضة بقيمها الفردية وأفكارها الفردية وفلسفتها المادية . فما ان تكتمل امة حتى تغالب حضارتها القومية الهجينة ما اضافه الاسلام اليها من عناصر حضارية ، فتتخلى عن مذهبها وتستبدل بالحروف العربية حروفا لاتينية وتنزع نزوعا شوفينيا ( مثل كل الحركات القومية فى القرن التاسع عشر) لتحويل الدولة المشتركة بين الترك والعرب الى دولة تركية تفرض سيطرتها على الامة العربية ، فتستجيب الامة العربية للتحدى، وتبدأ الحركة القومية العربية الحديثة مستهدفة دولة الوحدة العربية.
***
17-   تلك هى العلاقة التاريخية " الخاصة " بين الاسلام والامة العربية . وهى علاقة جدلية، انتهت الى خلق جديد . فكانت الامة العربية ثمرة تفاعل الاسلام مع تلك الشعوب والمجتمعات والجماعات، وتفاعلت فيما بينها فى ظل الاسلام وحمايته ، تفاعلا انتهى الى أن تكون شعبا عربيا واحدا بدلا من شعوب متفرقة ، ووطنا عربيا واحدا بدلا من أقاليم متعددة. واستمدت اسمها من تلك النواة التى بدأ بها التكوين القومى فى الجزيرة العربية، وحملت راية الاسلام الى باقى الوطن العربى ، وقادت حركة التفاعل الخلاق الذى انتهى الى أن تكون، كما نحن ، أمة عربية . وما كان هذا ليحدث لولا التقاء امرين فى مرحلة تاريخية واحدة : الاسلام كثورة حضارية قادرة على التطوير والخلق ، والشعوب لم تكتمل امما ، فهى قابلة لان تتطور وتخلق من جديد . ولم يكن أى الامرين بمفرده قادر على أن يخلق " الامة العربية. " وهكذا اسهم الاسلام فى تكوين الامة العربية . ولكنها عندما تكونت كانت وجودا ذا خصائص متميزة عن العناصر التى التحمت معا فكونتها . فهى "أمة عربية " وليست جماعة مسلمة من ناحية . وهى " امة عربية " وليست امتدادا ناميا لاى شعب من الشعوب التى كانت من قبل ، ولا حتى لتلك النواة التى بدأت بها مرحلة التكوين القومى منذ ثلاثة عشر قرنا فى قلب الجزيرة العربية .
***
18ـ   وهكذا لم يكن الاسلام دينا فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . أنشأت بينه وبين الامة العربية علاقة عضوية تاريخية خاصة . ذلك أن الاسلام ، كثورة اجتماعية قد لعب دورا أساسيا فى تكوين الامة العربية . فما ينكر الوجود القومى للامة العربية الا من ينكر على الاسلام مضمونه الثورى الحضارى الذى اسهم فى تكوين الامة العربية . وما ينكر أن الامة العربية " أمة الاسلام" ـ اذ قد أسهم فى وجودها ولم تكن موجودة من قبله ـ الا الذين يفرغون العروبة من حضارتها . والحق أنه حيث نبحث عن حضارة اسلامية خالصة من الآثار الشعوبية لا نجدها الا فى الحضارة العربية ، وحيث نبحث عن حضارة عربية خالصة من الاثار القبلية لا نجدها الا فى الحضارة الاسلامية . كذلك أصر الاكثر علما بالتاريخ على التوحيد بين كلمة "مسلم" وكلمة "عربى" فى الدلالة على الحركة الحضارية يوم أن كان العرب ينتصرون للاسلام فينتصر الاسلام لهم .
*****




الخميس، 25 أغسطس 2016

كيف تتكون الأمم ولماذا؟

كيف تتكون الأمم ؟

الدكتور / عصمت سيف الدولة

إن أية محاولة "لتغيير الواقع" يجب ان تبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الاجابة عن السؤال: من نحن؟ وما هو مجتمعنا؟ فحينها لن تكون عملية التغبير تجريدا. لن تكون هناك مشكلات بل مشكلاتنا، ولن تكون هناك قوى بل قوانا، ولن تكون هناك معركة بل معركتنا. ولن يكور هناك أعداء بل أعداؤنا، ولن تكون هناك حرية بل حريتنا... الخ. كل شيء سيكون اكثر وضوحا وتحديدا لأنه منسوب الى مجتمع واضح ومحدد.
فكيف يمكن ان نكتشف الحقيقة من امر مجتمعنا الذي ننتمي اليه؟
بمعرفة كيف تتكون المجتمعات البشرية.
***
 تطبيقا " لقوانين التطور الانسانى" انه إذا اجتمع إثنان وتطورا معا، خلال الزمان، فإن هذا يعني أن ثمة مشكلة، أو مشكلات مشتركة بينهما لا تحل إلا بارتباطهما و تطورهما معا. وهما يحلان تلك المشكلة أو المشكلات عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما ما هي المشكلة المشتركة وكيف نشأت. وتبادل الفكر بينهما فيعرف كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في كيفية حل المشكلة. وتبادل العمل، أي مساهمة كل واحد منهما بجهده في حل المشكلة المشتركة و إشباع حاجتهما المشتركة .
 والإضافة إلى الاثنين، خلال الزمان، تمد أبعاد المجتمع الصغير، أو الجماعة، على مستويات ثلاثة : إمتداد أفقي حيث يتعدد الناس وحيث يحمل كل فرد حاجة معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الأفراد. وامتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلي الحاجة الجماعية أو المشتركة. واتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية و جماعية جديدة تضاف إلي ما كان موجودا وتكسب كل مشكلة أولوياتها، في الحل بقدر ما تكون حادة ومشتركة... وهكذا.
 وقد تكون الرابطة الأولى التى جمعت بين اثنين هى الاجتماع على حل مشكلة "حفظ النوع" التى يؤدى حلها الى أن يضاف الى الاثنين ثالث فتوجد الأسرة ثم العائلة ثم السلالة... الخ . تلك وحدة الأسرة تظل واقعا مشتركا بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز التعدد ـ في الزمان ـ ما يميز الناس بأصلهم الواحد فتتوه الأنساب المشتركة في الكثرة . غير ان مجرد اجتماع اثنين ، ولو على مشكلة حفظ النوع، ينشئ مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما، أي أنها وليدة التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما ـ كل منفرد بذاته ـ في الوقت نفسه، مضمونها كيف يفكران ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل مشكلتهما الأولى . وقد حلت تلك المشكلة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها الانسان ونعني بها "اللغة". فعن طريق اللغة أمكن الوصول ـ بين المتعددين ـ إلى وحدة الإدراك والفكر والعمل لمواجهة المشكلات المشتركة. وباللغة وجد التطور الاجتماعي أولى أدواته فانطلقت كل أسرة تواجه ـ مجتمعة ـ ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو بالتعدد، وتتعدد المشكلات، وتتنوع في مضامينها، بحيث تتجاوز في اتساعها، وفي مضمونها، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن أن تجمع جهد كل الأسر والعشائر ، لحل المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق مصالحها المشتركة، فتتكون المجتمعات القبلية حلا لمشكلات مشتركة بين أفراد كل قبيلة، وتكون القبيلة بذلك طورا جديدا، ناميا، يتجاوز بمقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة .
فقد أتى على الإنسان حين من الدهر، استنفذه في الصراع ضد الظروف الطبيعية للحصول على ما يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد . وكان شكل صراعه، متابعة ثمار الطبيعة المتاحة تلقائيا الى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث يجدها، إلى أن تنضب فيهجرها إلى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييرا للظروف المادية ( الطبيعية ) بالانتقال من مكان إلى آخر. وبالهجرة ، وخلالها ، إلتقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر إنتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل "مشكلة التزاحم" فيستقر على الأرض ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التى تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب ونبال.. الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة و إشباع حاجاتها المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصرا عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائرـ تدريجيا ومن خلال مواجهة المشكلات ذاتها ـ لتكون قبائل. أي لتكون بكثرتها ومقدرتها أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر والعشائر في المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد وعادات لضبط سلوك الجميع ويحتكمون إليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم جميعا نصر مشترك ضد عدو مشترك فيمجدون انتصار" قبيلتهم"على الطبيعة وعلى الأعداء شعرا وغناء وألحانا... الخ إلى أن ينضب رزق الأرض، أو يغلبوا على أمرهم، فتبدأ مرحلة جديده من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة يصاحبها قتال جديد... الخ .
   وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة داخليا . مهاجرة ، مقاتلة دائما .
ذلك هو الطور القبلي من المجتمعات: داخل المجموعة الإنسانية الواحدة ، تنفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها القبلية . ولا تميزها عن غيرها " الأرض " التي تعيش فيها، لتبادل المواقع من الأرض كرا وفرا خلال الصراع القبلي .
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال أحقاب طويلة من الهجرة المقاتلة، اهتدت بعض الجماعات والقبائل الى الأرض الخصيبة وأودية الأنهار فاستأثرت بها حلا لمشكلة ندرة الرزق التي كانت تعانيها بالهجرة من مكان إلى مكان. ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائيا، بل " استقرت " على الارض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات ولم يعد من الممكن الحديث عن"التاريخ الإنساني" أو"تاريخ البشرية" بل لا بد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها الخاصة.
فالجماعات القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحله تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم؛ التكوين القومي، لتتميز بهذا الاستقرار على أرض خاصة عن الطور الذي سبقه؛ الطور القبلي. غير أن هذا لا يعني أنها قد أصبحت أمما. فنحن لا نقول إن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في منطقة معينة من الأرض قد أصبحت أمة. بل ننظر إلى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي إلى المستقبل. فالأمة تدخل مرحلة التكوين باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة و بها تحل مشكلة "الهجرة" وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي. تم تبدأ في التكوين وتتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها. وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا الاستقرار. أي حماية الأرض المشتركة. ذلك لأن القبائل لم تستقر كلها في وقت واحد. بل بينما استقر بعضها و دخل مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معا، تغزو أطراف الأرض التي استقر عليها الأولون فتقيم فيها مختلطة بسكانها الأصليين مبتدئين معا مرحلة من الحياة المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكون منهم أمة واحدة. أو محاولة غزوها فمنحسرة عن حدودها. وقد يثير الغزاة حروبا مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة المغيرين والقضاء عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض الخاصة فتمتد حدودها ليشملها جميعا الاستقرار مقدمة لتكوين أمة. وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة فترات طويلة من التاريخ عوقت تطور الجماعات المستقرة إلى أن تكون أمما مكتملة . وان كانت قد أسهمت ـ من ناحية أخرى ـ في أن يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة المشتركة، رواسب الطور القبلي فيلتحموا معا خلال العمل المشترك لحماية الأرض المشتركة في مواجهة العدو المشرك. وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع حول الاختصاص بها تكون تلك الحدود ذاتها حدودا لما يليها من أرض خاصة بجماعات مستقرة أخرى .
إلى هنا تكون قد توافرت للجماعة المستقرة على أرض معينة ( الأمة في دور التكوين ) وحدة اللغة ووحدة الأرض المشتركة. غير أن هذا لا يميزها عن غيرها من الجماعات المستقرة التي لها بالضرورة لغتها وأرضها. إنما تكتمل خصائص الأمة خلال تكوينها القومي المنطلق من استقرار الشعوب على أرض خاصة فتفاعل الناس مع الناس مع الطبيعة ينتج حصيلة مادية (إنتاج زراعي، إنتاج صناعي، أدوات إنتاج، مبان.. الخ) وتفاعل الناس في المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من الأفكار والمذاهب والنظم والقيم والتقاليد والفنون... الخ. والنظر إلى هذه الحصيلة من تفاعل الإنسان مع الطبيعة ومع غيره في المجتمع نظرا إلى ما يسمى"الحضارة". فإذا أضيف إلى هذا ـ في دور التكوين القومي ـ أن الطبيعة محددة بأرض معينة متميزة عن غيرها " وليست ممتازة " وان الناس قد تحددوا بشعب معين متميز عن غيره ( وليست ممتازا ) كان مؤدى هذا التحديد أن حصيلة تفاعل الناس مع أرضهم الخاصة وفيما بينهم ستكون متميزة في مضمونها المادي والثقافي عن غيرها، أي تكون متميزة، "حضاريا "  وتكون بذلك قد اكتملت "أمة".
وعندما تكتمل الأمم وجودا قد تظل فلول من الجماعات القبلية محاصرة أو محشورة على أطراف الأرض الوعرة فيما بين الأمم. أو متخلفة في أماكن متفرقة داخل الأمة. وقد تحاول من حين إلى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وأن تدخل هي أيضا مرحلة للتكوين القومي خاصة بها، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع لنفسها جزءا من الأرض تختص به. ولكن الأمر يكون قد حسم تاريخيا باختصاص الأمة التي سبقت تكوينا بالأرض المعينة المشتركة حتى أقصى أطرافها بصرف النظر عمن قد يكون مقيما على أرضها، وفي كنفها من أفراد أو أسر أو عشائر لا ينتمون إليها أو من يكون متخلفا من أبنائها ، لأن التكوين القومي الجديد هنا لن يكون إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخيا .
*****


 

 

 

 




الأربعاء، 3 أغسطس 2016

اعلان الحرب العالمية الثالثة

هل كان هذا تنبؤً مبكرا بما نعيش فيه اليوم؟

اعلان الحرب العالمية الثالثة

الدكتور/ عصمت سيف الدولة
   نشرت الصحف يوم 16 ابريل 1984 خبرا يقول ان الرئيس الامريكى رونالد ريجان قد اصدر تعليمات بشن غارات انتقامية ضد الجماعات الارهابية فى خارج الولايات المتحدة الامريكية وتوجيه ضربات وقائية اليها باستخدام القوة قبل ان تقع اى احداث وان هذه التعليمات قد جاءت كرد فعل للهجوم الانتحارى الذى تعرضت له قيادة قوات مشاة الاسطول الامريكى فى بيروت فى اكتوبر الماضى . وقالت الصحف ان تلك التعليمات تتضمن تشكيل وتدريب فصائل شبه عسكرية تابعة لوكالة المخابرات المركزية ( س. أى . ايه ) ولمكتب التحقيقات الفيدرالى الامريكى (مباحث امن الدولة ) ووحدات كوماندوز تابعة لوزارة الدفاع الامريكية ( قوات مسلحة ) وستزود بقائمة بمواقع الارهابيين فى العالم من اجل التحرك بسرعة لتوجيه ضربات اجهاض اليها او شن هجمات انتقامية ضدها .
   هذا هو الخبر الذى اعلن. و مادام قد اعلن فهو ليس تعبيرا عن نوايا تهديدية ، ولكنه اعلان عن بدء تنفيذ مخططات سبقت دراستها وتجهيزها للتنفيذ . ذلك لأن رؤساء الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية . لا يصدرون اوامر لدراسة امكانية تنفيذها ، بل يصدرونها للتنفيذ بعد ن تكون كل عناصر التحضير لها قد انتهت واصبحت قابلة للتنفيذ الفعلى . 
   اذن فان الولايات المتحدة الامريكية قد انتهت من تكوين قوات خاصة أو " جيشا رابعا " بالإضافة الى الجيوش البرية والبحرية والجوية  تتوافر لها عناصر الخفاء والسرية والتمويه على طريقة المخابرات المركزية ، والكفاءة القتالية على اعلى مستوى فى القوات المسلحة الامريكية وأصدرت لها الاوامر بأن تغادر الولايات المتحدة الامريكية  الى خارجها بدون أن تسمى جهة معينة أى الى أى مكان فى الأرض فى أية دولة لتوجيه ضربات وقائية للجماعات الارهابية باستخدام القوة .
   اما الضربات الوقائية للإجهاض فتعنى تصفية الجماعات الارهابية قبل بدء تنفيذ اى نشاط ارهابى .
  ومعنى ذلك ان الهوية الارهابية لجماعة لن تتحدد طبقا لممارسة فعلية ايا كان قدرها، بل تشمل الجماعات التى تدين بمبادئ او تتبنى سياسات او تروج افكارا او تتلقى فى احزاب او منظمات تعتبرها الولايات المتحدة الامريكية مبادئ وسياسات وأفكارا ارهابية او تؤدى الى الارهاب قياسا على مبادئ وسياسة وأفكار الحكومة الامريكية ذاتها . وبالتالى فان الجماعات المستهدفة ليست معينة على سبيل الحصر جغرافيا فقد تكون فى أية دولة، .. وليست معينة على سبيل ما تعتبره الحكومة الامريكية ذاتها ارهابية الآن او ما تعتبرها ارهابية فى المستقبل قياسا على ما يحدث من تغيير مبادئ وسياسة وافكار الحكومة الامريكية ذاتها فى المستقبل .
   صحيح ان الخبر المنشور يشير الى قوى الثورة الوطنية فى لبنان ، وصحيح  ان الولايات المتحدة لم تكف منذ سنين عن وصف مقاتلى وكوادر وقادة الثورة الفلسطينية بأنهم ارهابيون وهو ما يعنى ان الحرب التى اعلنتها امريكا قد اعلنت ضد العرب اولا ولكن هذا لا يعنى اننا نحن المستهدفون وحدنا فى مكاننا من وطننا العربى بل سيضاف الينا  أو قد اضيف فعلا  ، كل الاحرار وكل الثوار فى العالم كله . الذين ترشحهم افكارهم واهدافهم ليكونوا ارهابيين فى المستقبل طبقا لمقاييس امريكا . وسيضاف الى هؤلاء أو قد اضيف اليهم ، كل الفلاسفة والكتاب والفنانين والصحفيين والطلاب الذين يؤيدون ثورات التحرر الوطنى ويعادون المبادئ والسياسات والافكار الامريكية لانهم قياسا على تلك المبادئ والسياسات والافكار شركاء بالتحريض والمساعدة مع الارهابيين . وما لم تجهض افكارهم من الآن ستولد ارهابيين فى المستقبل .
   ولست اشك لحظة واحدة فى أن كل الحكومات الجادة فى دول العالم قد بدأت منذ 16 ابريل 1984 تدرس على أعلى مستوى قيادى مدنى وعسكرى وتضع خططا قتالية معقدة وتنشئ مراكز تدريب سرية ، وتجند افرادا مختارين طبقا لمقاييس خاصة . للدفاع عن حرمة اوطانها واستقلالها الخارجى و امنها الداخلى ، ضد القوات الامريكية الغازية خفية التى ستعبر الحدود فى شكل طلبة وسائحين وفنانين وأدباء ورجال أعمال وأصحاب أموال بجوازات سفر مزورة  الى اوكار أعدت خفية تحت لافتات بريئة براءة مراكز البحوث العلمية وجمعيات الدفاع عن حقوق الانسان والتدريس فى الجامعات حيث يجد كل واحد سلاحه الذى سبق تهريبه واوامر صريحة بأن يقتل ويدمر .. هذا " الفلان " أو ذلك " المكان " لاجهاض مخططات الارهابيين .. لاشك فى هذا لأنه لا توجد حكومة جادة فى دولة مستقلة تقبل بأن تغزوها جيوش القتل والتدمير الامريكية بحجة ان الولايات المتحدة تريد اجهاض نشاط الارهابيين على ارضها بدلا من ان تتلقى من امريكا اخطارا  بأن لديها معلومات بأن على أرضها ارهابيين ثم تترك لها ممارسة سيادتها على أرضها احتراما لهذه السيادة .
   وهكذا ستبدأ كل حكومة جادة فى دولة مستقلة ، أو قد بدأت فعلا تكوين جيشها " الرابع " لحماية الوطن واستقلاله وامنه ضد غزو جيش القتلة والمدمرين الامريكى. وكما ان كل مواطن او مقيم فى أية دولة قد يكون فى نظر الحكومة الامريكية وطبقا لمقاييسها الخفية ارهابيا الان أو مرشحا طبقا لافكاره أن يكون ارهابيا فى المستقبل وبالتالى هو هدف للانتقام أو للاجهاض فان كل دولة ستعتبر كل امريكى من ذكر أو انثى يعبر حدودها مشتبها فى ان يكون جنديا فى الجيش الرابع الامريكى  وسيتعرض لما يتعرض له المشتبه فيهم والخطرين على الأمن من رقابة مستترة وتفتيش خفى واجراءات وقائية ضد نشاطه المحتمل .
   كما اننى لا أشك لحظة فى ان كل الاحرار وكل الثوار وكل الوطنيين فى العالم قد اصبحوا على يقين من انهم افرادا وجماعات قد اصبحوا اهدافا للقتل الامريكى ، أو قد يصبحون اهدافا وجب قتلهم طبقا لمقاييس أمريكية خفية وقوائم سرية ، وأنه قد يكون من بين جند الجيش الرابع الامريكى المكلفين بقتلهم أينما كانوا اولئك الزملاء فى المعاهد والملاعب والمشاة فى الطرقات ورفاق السفر فى القطارات أو قد يكون من بينهم تلكم الصديقات اللعوبات الفاتنات أو اولئك الاساتذة الوقورون .
   باختصار لقد أصبح من حقهم أن يشكوا فى كل امريكى ، أو فى كل عميل نصير لامريكا ، خوفا من أن يكون هو الذى تلقى أوامر الرئيس الامريكى بتنفيذ عملية " الاجهاض " القاتل ، وقد يبلغ بهم الشك الى حد المبادرة الى اجهاض الاجهاض .
   وهكذا أعلن الرئيس الامريكى يوم 16 ابريل 1984 بدء حرب الاشباح حيث يطارد مجهولين فى أماكن مجهولة فى أوقات مجهولة . حيث سيكون السلاح الخنق بالأيدى أو التسمم فى الطعام أو الطعن بالخناجر أو الدهس بالسيارات أو تفجير القطارات أو اشعار النار فى المنازل أو الغابات حيث سيلجأ كل واحد الى وقاية نفسه ضد ( الضربة الوقائية الامريكية ) بأن يحرز السلاح ويتدرب عليه ويتعلم بنفسه أو يعلمه غيره أن الهجوم خير وسائل الدفاع فينقل المعركة الخفية الى قلب الولايات المتحدة الامريكية حتى تبقى دائرة هناك ولا تنتقل الى خارجها . وهناك ستهزم الولايات المتحدة الامريكية  لأنها قد اختارت – بغباء تاريخى – ان تخوض حربا لا تجدى فيها القنابل الذرية ولا الطائرات ولا الدبابات ولا الاساطيل ، اختارت ان تعلن حربا ينتصر فيها الوطنيون اصحاب العقائد التحررية  والثورية ويطبقون من تكلفتها ما يكفى لثمن تذكرة سفر وشراء مسدس أو حتى خنجر أو ماهو اقل من ذلك ثمنا .
   كل البشر ، فى كل مكان ، لن يلبثوا حتى يجدوا انفسهم اما قاتلين أو مقتولين فى المخادع والمنازل والطرقات والشوارع ودور اللهو ومعاهد العلم . لن يتم هذا دفعة واحدة ولكنه قد بدأ ، وعلى مدى سنين ستمتد هذه الحرب الجبانة من خلال أفعال وردود أفعال ، ارهاب وإرهاب مضاد الى ان تشمل البشر جميعا . وانى لأرجو مخلصا ان تلتفت البشرية الى مخاطر الحرب التى اعلنها رئيس الولايات المتحدة الامريكية ، والا يكون الجهل بمبرراتها أو قواتها أو أسلحتها وساحاتها أو ضحاياها مبررا لتجاهل انها هى هى الحرب العالمية الثالثة التى طال انتظارها .
   لقد كانت الحرب العالمية الثالثة متوقعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . كان المتوقع أن تكون حربا ذرية حتى تعادلت القوة الذرية او تفوقت على ما تملكه الولايات المتحدة الامريكية فحال التوازن الذرى دون أن تكون الذرة سلاحا فتأجلت . وعادت الولايات المتحدة الامريكية الى الحروب التقليدية التى لم تنقطع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واستطاعت فى ظلها ان تفرض هيمنتها على أغلب دول العالم بالقوة المسلحة : بقوة الاقتصاد الذى تغذيه المتاجرة فى الاسلحة وبسلاح أكثر فتكا من سلاح هو عجز الشعوب المقهورة عن المقاومة بالقوة نتيجة عجزها عن تحمل تكلفة اعداد الجيوش المتكافئة تسليحا وهكذا تعيش كل الشعوب والامم فى كل انحاء الأرض – منذ الحرب العالمية الثانية – كمواطنين من الدرجة الثانية أو دونها حتى فى اوطانهم ، بينما يحظى بحق المواطنة الكاملة شعبان أو ثلاثة ، هم أعضاء نادى السادة لانهم اصحاب القوة الظاهرة .
   وما كان يمكن أن يستمر هذا الاذلال العالمى لأغلبية الأمم والشعوب كان لابد من اعادة المساواة بين البشر بتجريد المتسلطين من قوة القهر . هذا هو السبب الموضوعى الذى جعل الحرب العالمية الثالثة متوقعة . الشئ الذى كان مجهولا هو متى وكيف ومن الذى يشعلها أولا . وفى سبيل الاجابة على هذه الاسئلة لم تكف الدول القادرة القاهرة وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية عن ابتكار الاسلحة ، وشن حرب يقال محدودة لمجرد اختبار فاعليتها ، وتحولت الارض الى كوكب مسلح برا وجوا ليلا ونهارا ، واصبح التجسس علنيا بواسطة الاقمار الصناعية وأدوات التصنت بعيدة المدى .. الخ ولم تقم الحرب العالمية الثالثة التى تتوقعها وتعد لها كل القوى فى العالم ..
   الى أن كان اكتوبر 1984 فى بيروت شابان عربيان مجهولان ، لا يملك كل منهم الا قضيته  وشجاعته وسيارة ملغومة . يدخلان معركة قصيرة ضد القوات الامريكية البرية والبحرية والجوية فى لبنان ، فيهزمان تلك القوات وتضطر الى الانسحاب ، فيلتفت العالم كله ، وعلى رأسه الدولة المهزومة فى موقعة بيروت الى القوة العائدة من الماضى . قوة الفرسان . قوة الافراد المسلح كل منهم بقضية وشجاعة وأبسط أدوات التدمير . ويتذكرون تلك المعارك التى دارت بهذا الاسلوب منذ بضع سنين فى الطائرات والسيارات والمنازل التى هزم فيها افراد لا يملكون الا قضية و شجاعة أعتى الدول وأجبروها على أن تنفذ ارادتهم . فتجمعت كل هذه الخبرة لتسقط القنابل الذرية والطائرات والدبابات والمدافع والجيوش من حلبات الحرب القادمة : الحرب العالمية الثالثة. فتنشئ الولايات المتحدة الامريكية جيشها الرابع ويتلقى فى 16 ابريل 1984 أمر الرئيس الامريكى ببدء الحرب خارج الحدود ضد من يسميهم الارهابيين ، ويزودهم بالاسماء بدون اعلان وبالمواقع وبدون تحديد دولة ، وهكذا قلنا ونقول أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بعد أن حددت الظروف العالمية اسلوبها انه اسلوب المقهورين الفقراء للانتصار على البغاة الاقوياء ..
   ومن يعتقد أن ما نقوله خيالا عليه أن يتفكر فى ايهما أكثر واقعية . أن تكون الحرب العالمية الثالثة قد بدأت باسلوب فرضته الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى سادت العالم منذ الحرب العالمية الثانية ، أم أن تعلن دولة كبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية انها قد أعدت قوات مقاتلة وأمرتها بانتهاك حرمة كل الاوطان خفية ، وقتل من تريد قتلهم ، بدون اقامة وزن لحرمة الأوطان واستقلال الدول وسيادة الشعوب واحكام القانون . ان اى انسان يعيش بفكره فى النصف الثانى من القرن العشرين يدرك أن ما أعلنه الرئيس الامريكى وما تمارسه الولايات المتحدة الامريكية يتجاوز الخيال الى مستوى الجنون ، فلا يبقى الا قبول الواقع كما هو ، والواقع أن الرئيس الامريكى قد أعلن الحرب العالمية الثالثة ، وعلى الشعوب والأمم فى انحاء الارض جميعا  أن تعد نفسها لمواجهة حرب الاشباح التى ستدوم سنين طويلة من الرعب الشامل يموت خلالها الناس فرادى وجماعات اغتيالا أو خوفا من الاغتيال فيتمنى الاحياء منهم لو كانت حربا ذرية .
*****
القاهرة عام 1984