الثلاثاء، 29 مارس 2016

الاستبداد الديمقراطى


المقدمة التى استهل بها الدكتور/عصمت سيف الدولة كتاب الاستبداد الديمقراطى :
"ان الاستبداد ظاهرة تعويضية. فتتوفر " الشخصية المستبدة "- بشكل عام - في الأشخاص فاقدي الثقة بانفسهم . الذين لم ينجحوا ابدا في تكوين شخصياتهم تكوينا متكاملا مستقرا. يدفعهم النقص الذي يعرفونه من أنفسهم الى محاولة تعويضه في العالم الخارجي . فهم عندما يستعملون العنف ضد أية محاولة تغيير اجتماعي بحجة الدفاع عن استقرار النظام القائم ، يدافعون في الحقيقة عن ذواتهم التي تفتقد الاستقرار النفسي . ويؤدي كل هذا الى نزوع عدواني مختلط بالحقد على كل من لا يوافقهم في الرأي أو يتميز عنهم خاصة اولئك الذين يتميزون بالمبادئ والقيم التي تشكك في سلامة النظام الإجتماعي أو تتطلع الى تطويره . من هنا ينحاز المستبدون دائما إلى القوى المحافظة الرجعية إذا لم تكن ثمة مخاطر تهدد بتغيير النظام . فإذا ظهرت تلك المخاطر يصبح نزوعهم العدواني أكثر شراسة ويتحولون مباشرة الى " فاشست". وهم عندما ينشئون أحزابا فإما أن تكون أحزابا ارهابية وأما أن تتكوّن من الامعات من الناس ضعاف الشخصية!
..........................
من تقرير اللجنة العلمية لدراسة الشخصية المستبدة ـ (الولايات المتحدة الامريكية - عام 1950 )


الاثنين، 28 مارس 2016

هذه الدعوة الى الاعتراف المستحيل




   "ان الإعتراف بدولة اسرائيل هو اعتراف بشرعية "الصهيونية " فهو موقف صهيونى فإذا تذكرنا أن الصهيونية ليست هى اليهودية بل هى الحركة السياسية التى تلتزم بالمبدأ الذى يقول بأن للشعب اليهودى حقا تاريخيا مشروعا فى أرض فلسطين ، وأن بعض اليهود لا يدينون بهذا المبدأ فهم ليسوا صهاينة ولو كانوا يهودا ، وأن من غير اليهود كثيرين يقرون هذا المبدأ فهم صهاينة ولو لم يكونوا يهودا" عصمت سيف الدولة

السبت، 26 مارس 2016

هذه المعاهدة



قد يذكر التاريخ ان الاتفاق الذى قبله ووقعه رئيس جمهورية مصر العربية يوم 26 مارس 1979 هو أكثر الاحداث خطورة وتأثرا فى حياة مصر منذ عام 1882 . فالاتفاق يتضمن صلحا والتزاما بالتعامل مع عدو أجنبى احتل أرض مصر بالقوة.

من مذكرة الدكتور عصمت سيف الدولة الى مجلس الشعب لحثه وتحريضه على رفض معاهدة الصلح مع اسرائيل ـ 10 ابريل 1979 

الجمعة، 25 مارس 2016

الشيخ عباس



الشيخ عباس مشهور اختار لابنه الوحيد اسما نادرا وغير مألوف؛ أسماه عصمت سيف الدولة.
ولم يدعو له بالأطيان والثروة، وانما تمنى له منذ طفولته ان يؤلف كاتبا. وركز كل جهوده وإمكانياته على حسن اعداده وتربيته وتعليمه.
كان للشيخ عباس تأثيرا كبيرا على تكوين شخصية سيف الدولة، وهو تأثير يعلمه جيدا القريبون منه، أما الآخرون فيستشعرونه بوضوح فى الجزء الثانى من مذكراته الذى اختار له عنوان "مشايخ جبل البدارى".




الخميس، 24 مارس 2016

عصمت سيف الدولة وقريته الرائعة لجلال أمين


(( بُهرت بكتاب "مذكرات قرية" لعصمت سيف الدولة انبهارا شديدا، وكانت تعترينى وأنا أقرأه دهشة مستمرة: أإلى هذا الحد كان #عصمت_سيف_الدولة كاتبا موهوبا، والى هذه الدرجة وصلت حساسيته بأدق تفاصيل الحياة فى قريته فى أعماق الصعيد، الى جانب كونه المكافح السياسى الفذ والصلب الذى نعرفه جميعا........
لقد شرع #جمال_حمدان فى كتابة كتاب فى جغرافية مصر فانتهى الى كتابة أربعة مجلدات كبار عن "شخصية مصر". ولقد طُلب من عصمت سيف الدولة أن يكتب سيرته الذاتية ففضل ان يكتب وصفا لقرية عرفها فى أعالى الصعيد، وشرع يكتب "مذكرات قرية" فإذا به بدوره يصف لنا من زوايا اخرى "شخصية مصر" كلها. الفرق انك تقرأ فى كتاب جمال حمدان عن الكل فتفهم الجزء، وفى كتاب عصمت سيف الدولة تقرأ عن الجزء فتفهم الكل. جمال حمدان يصف لك العمود الفقرى وخريطة الاعصاب والأوعية الدموية، وعصمت سيف الدولة يصف لك رموش العين وملمس اليد، ولكن النتيجة واحدة والحب واحد ...))
........................
"عصمت سيف الدولة وقريته الرائعة" للدكتور جلال امين ، من كتاب "شخصيات لها تاريخ"

الثلاثاء، 22 مارس 2016

طارق البشرى والجامعة الوطنية لدى سيف الدولة


بسم الله الرحمن الرحيم

 الجامعة الوطنية والجامعة المدنية لدى الدكتور / عصمت سيف الدولة * 

                                                                  المستشار / طارق البشرى


( 1 )

   د/ عصمت سيف الدولة له دين لدينا كبير، لدى كل من عرفه ومن قرأ له . وظنى انه ما من وطنى ، عربي ناشط  بهذه الصفة إلا وفى رقبته للدكتور عصمت منه .

   هو فى كلمة مختصرة ، يمثل فى ظنى أهم استجابة فكرية مصرية ، وأقوى استجابة من أرض النيل ، لدعوة العروبة . وقد غذى هذه الفكرية بماء حياة جديرة أن تصدر من مصر . وأبرأ ذمة الفكر الناشئ فى مصر من دين عليه للجامعة العربية العامة . وقد كان قويا وسخيا وعطاء ، فأوفى الدين عن غيره من بنى قطره ، ممن يدينون بفكرة العروبة ويسعون إلي  تحقيق وحدتها السياسية .
   في إطار النقلة الكبرى التى انتقلت بها مصر لسياسة الوعى والإدراك  إلي العروبة ، كان عصمت سيف الدولة هو المفكر الذى قدمته مصر ليعكس هذه النقلة ، فقد كانت العروبة قضية حياته ـ يرحمه الله  ويجزل له العطاء  ـ وقد كان من سعة الاطلاع وعمق المعارف وسخاء العطاء الفكري مما جعله يضع بصمة خاصة جدا على هذا الفكر السياسي عليه ، مما جعل فكره جديرا بأن يبقى وأن يولد من المعاني ما يبقى نفعه .
   وعصمت جعل العروبة قضية حياته ، وعايشها بكل تضاريسها وعقدها ومشاكلها جميعا ، وما أكثر هذه العقد والمشاكل ، حتى أنه فى واحدة من كتاباته ، أوقف القلم ثم كتب " يا الهى ما أكثر المشاكل " . وهو آل على نفسه أن يخدم هذه القضية من أعم تكوين فلسفى مجرد لها ، حتى أخص تشكل عينى ملموس لحركتها .
   كان مستقل الفكر وقادر على الهضم والتمثل  ، وجمع بين الفلسفة بتحليقاتها المجردة  وبين التطبيق بحركته الواقعية . وكان يتكلم على طول ما بين هذين الحالين وعرضهما ، وكانت كتاباته النظرية المجردة ذات حس علمى  وتطبيقي دائما ،   كما أن تعليقاته التطبيقية، وتصدياته للواقع  كانت دائما ذات عمق نظرى وخلفية فلسفية .

   وجمع بين دراسة القانون وممارسة قضاياه وتطبيقاته وبين دراسة الفكر السياسى وممارسة حركتها وبين دراسة علوم الاجتماع وتجارب الأمم ، وأورثته الممارسة القانونية المدربة، الرؤية  التى تجعله دائما وهو يتعامل مع النظريات المختلفة ، لا تغيب عنه بتاتا  المضادات التطبيقية لأى من مفاهيمها فى السياق المرئي والملموس ، وهو أيضا يستخدم " النظر " لترجيح المضادات الملموسة . وكان فى سجاياه الشخصية اعتداد بالنفس وذا شموخ وأنفه .  ومع ضخامة هذه السجية ، فهى لم تكن تصل عنده أبدا الى " الكبر " ، لأنه كان دائما ما كان يستخدم اعتداده وشموخه وأنفته . فى الدفاع عن ضعيف مظلوم ذى حق ، والدفاع عن موقف سياسى واجتماعي يراه ويراه الناس معه موقفا نبيلا . وقد كان عاتيا ولكنه لم يكن يعتد  " إلا على من عتا  "كما يقول الشاعر المتنبى فى مديح نفسه .
    والصورة المقابلة لذلك ، أنه كان يذوب حنوا على من يصادقهم ويؤاخيهم ، وكذلك على الضعفاء . وأنا لم أعرف أحدا أراد أن يكتب مذكراته الشخصية عن آخر عمره ، وأصدر فيها كتابين صدر ثانيهما بعد انتقاله الى رحمة الله ، ولم أعرف أحدا  بكتب مذكراته فلا يشير الى نفسه ، إنما يكتب عن قريته وعن أبيه وعن أهل قريته ، بشعور غامر من المحبة والود ينسى فيه نفسه وذاته ، وقد قرأتها عقب وفاته ، وكنت استصحب الشعور بأنه حى يحكى وأنا أقرأ ه ، وكان يتجاذبنى الشعور بالشغف الى متابعة القراءة والشعور بالدهشة من الاقتراب الى نهاية الكتاب . لأنه كان عملا رائعا لشخصية يندر أن تعرف مثيلا لها ، ولعالم يفكر بنبل أغنى قومه ولا يزال يغنيهم .

( 2 )

  ينحدر عصمت سيف الدولة من شجرة  " الحزب الوطني " التى تضرب بجذورها فى أرض مصر . هذه الشجرة تبدأ باستقلال الوطن وتمتد الى كل ما يمكن أن يمتد إليه الفكر السياسي والاجتماعي ، على اختلاف المدارس والمناهج والمطالب والنظر الى التحديات وتفتيق أساليب  الاستجابة لها ، ولكن يبقى " الوطن " هو المسلمة الأولى وهو الحلقة الحاكمة لكل مطلب ولكل استجابة من بعد . من هذه الشجرة ظهرت جذوع أخرى ، إسلامية ووطنيه وعربية وديموقراطية واشتراكية ، ولكنها كلها تبدأ بالاستقلال الوطني  وتحكمه فى التأويل والتفسير والتطبيق .
   و د / عصمت  اختار فى حياته الفكرية السياسية الخصبة ، منذ الخمسينات ، اختار التوجه الى العروبة والى الاشتراكية ، ولكن عروبته كانت تبدأ بموقفه الوطني وتستوعب مصريته باعتزاز وتتعامل مع وحدات الانتماء الأعم مثل الجماعة الإسلامية وغيرها ، كما أن اشتراكيته كانت محاطة بالمجال الوطني العروبي الذى رآه حاكما ومسيطرا .
    ولذلك نلحظ أن أهم ما جهد الدكتور عصمت فى بذل جهده الثقافي الكبير فيه ، هو مواجهة الفكر الماركسي الذى كان ذا عزوة وقوة تماسك فلسفى اقتصادى واجتماعى ، تعززه ما بدا من انتصار التجارب الشيوعية فى عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وما بدا من دعم موازين الدولية الاشتراكية لحركات التحرر الوطني ولحكومات ونظم التحرر الوطني فى الخمسينات والستينات . وخلال هذه الفترة بدا الفكر السياسي الآخذ عن  المرجعية الإسلامية  بعيد عن منابر الحوار الاجتماعى السياسى المؤثر فى مجتمعنا . فكان الفكر القومي العربي يجتهد فى أن يقيم حائط صد  ضد التغلغل الفكري الماركسي فى بلادنا ، واختلفت الاتجاهات والاجتهادات ، وكان د / عصمت من أهم من تصدوا لهذا الأمر من الزاوية الفلسفية ، فوضع فكرة " جدل الإنسان " بديلا عن الجدل المادى أو جدل الطبيعة ، وأراد أن  تعمم  الفكرة الاشتراكية فى إطار وطني عروبى . وكانت جهوده فى هذا الشأن من أخطر وأهم الجهود .
وبهذه المناسبة فإني أذكر فى هذا السياق جهود الدكتور على مختار رحمه الله .

( 3 )

   الدكتور عصمت يصل الى أن التشكيل الأمثل للجماعة السياسية هو التشكيل القومي ، وهو ما أفضت إليه ضرورة الاشتراك بين البشر ، وعنصراه اللغة والأرض وهما ما يصنعان التاريخ وظهور الأمة بمسمياتها " مجتمعا ذا حضارة متميزة" .. ( المنطلقات ص 137 ) .. و د / عصمت باعتباره كما سبق وأن ذكرت رجلا " تطبيقيا " كان لابد أن يضيف الى ذلك " وحدة المصير القومي" (المنطلقات ص 138) .
   ثم هو بعقليته القانونية يربط بين هذا التكوين وبين مفاهيم السيادة بحسبانها استقلالا سياسيا والسلطة باعتبارها ممارسة للسيادة ، وما ينتج عن ذلك من " المشروعية " التى هى ضبط السلوك الفردى والجماعى مع قواعد النظام القانونى . وهنا نلحظ أن القومية قد صارت الجذر الأساسى الذى يراه عصمت للاستقلال والمشروعية .
   وهو يزيد إيضاح الرباط بين القومية وبين الاستقلال ، لأن أى انتقاص من السيادة على أى إقليم من الأقاليم المشمولة بالقومية يعتبر أن الشعب كله قد صار محروما من وطنيته ( المنطلقات ص 144ـ 145 ).
   ثم يزيد التعميم في هذا الشأن بأن أى محاولة لحل مشكلات اجتماعية للمجتمع القومي ، أى محاولات لحلها في غير إطار الدولة القومية ، هي محاولات مهدرة محكوم عليها بالفشل ، لأنها ببساطة عالجت مشكلة ليست هي مشكلات المجتمع الواحد ـ المجتمع القومى .
   في هذه النقطة ، ينظر الدكتور عصمت الى " القومية المكتملة " باعتبارها جسما واحدا ، فلا استقلال للجسم الواحد ما بقى جزء منه منقوص السيادة . وهو لا يرى أملا فى علاج أى مشكلة مادام ينظر اليها فى إطار جزئى أو إقليمي . وهو يربط بذلك ربطا عضويا بين تكوين الجماعة السياسية وبين أى من السياسات أو الأهداف أو المشاكل .

( 4 )

   ثم هو بعد ذلك ، أو مع ذلك ، ينظر إلي القومية المكتملة باعتبار ما أنتجت من " أمة ". ويرسم لها إطار علاقاتها مع ما بخارجها و ما بداخلها وحسب مصيرها . وعلاقات الخارج فيما يراها ، هي مع الإنسانية ومع الإسلام ومع الأممية . وعلاقاتها الإنسانية مبرأة من العدوان بحسبانه صفة لصيقة بالقومية ، لأن القومية كما يستحدمها الاستعمار ذريعة للعدوان تستخدمها حركات التحرر وعاء للمقاومة ، و لأن القومية شئ والنظام الذى تتخذه شئ آخر .
   ثم أطنب بعد ذلك فى شأن علاقة القومية بالإسلام ، وفى هذا الشأن هو يرى أن العلاقة هنا هي علاقة " بالخارج " آي بمجتمعات أخرى خارج المجتمع القومي ولكنها ليست علاقة بدائل . ثم يضيف أن ثمة علاقة تاريخية خاصة بين الأمة العربية والإسلام بما ليس له مثيل فى تاريخ الأديان لتاريخ الأمم . وهو يرى أن الإسلام عقيدة أشمل من أن تنحصر فى جماعة سياسية ، ومن ثم لا تقف على مستوى واحد مع القومية مما يجعلهما بديلين . كما أن الإسلام لم يكن فى رأيه دينا فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . وقد أدرك أمما مكتملة القومية وانما لم تكتمل قوميتها بعد .  ثم يشير إلي  أن  الإسلام  أسهم فى تكوين  الأمة العربية ، وثمة أمم أخرى إسلامية منها الفارسية والتركية ، ثم يذكر النتيجة التى يريد أن يصل إليها وهى أنه " لا يمكن الاحتجاج بالإسلام لإنكار الوجود القومي العربي أو الاستناد إليه فى موقف مضاد للقومية العربية " ( المنطلقات ص 158 ) . 
   وأنا أجد خلافات لدى عن د/ عصمت فى صياغة هذه العلاقة ، ولست هنا فى معرض ذكر آرائي التي يمكن الرجوع إليها فى نطاق وجودها، إنما اعرض ملامح تفكير د/ عصمت ، وأرى بشأنها أن المجال المشترك بين وجهتي النظر كبير و معتبر . فالإسلام ساهم فى اكتمال القومية العربية ، وثمة علاقة خاصة بينهما وهما ليسا بديلين . قد يكون الأستاذ الجليل يثبت الانتماء القومي ، وأنا أراه من الناحية التاريخية حركيا ينمو ويكتمل وينقص أيضا . وهذا ما يلقى علينا مسئولية  مضاعفة . كما أنى أرى أن ثمة تكاثر فى دوائر الانتماء والجهد البشرى وظروف التاريخ والمراحل وهو ما يحكم احداها فى غيرها ، وأن العلاقة بين العروبة والإسلام علاقة أظنها علاقة خصوص العروبة بعموم الإسلام من الناحية  السياسية ، بحسبانه ثمة جماعة سياسية خاصة وثمة جماعة سياسية أعم . والتنظيم هو ما ينسق بينها .. الخ .
   ثم يرد  حديثه عن علاقة القومية بالأممية والتى تقوم فى الفكر الماركسي على وجود الطبقة العاملة فى العالم ، وهو ينظر فى هذا الأمر باعتبارات السياسات المتحدة ضد قوى البطش الإمبريالي فى العالم فيجد تعاونا ، ثم ينظر إلى الفواصل القومية بين الطبقات العاملة على أسس مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي فيجدها كثيرة جدا ويلحظ أن مستوى بعض الطبقات العاملة هو على حساب طبقات عاملة أخرى .. وهكذا ..
   ثم يعرج الأستاذ إلي علاقة القومية بجماعات " الداخل " سواء الطبقة أو الإقليم أو المؤسسات الإقليمية أو الأقليات القومية . وهو فى ذلك يرى حتمية التقدم ، بحسبان أن التحرر هو تقدم ضد الاستعمار ، وأن الديموقراطية هى تقدم ضد الاستبداد وأن الوحدة هى تقدم ضد التجزئة ، ثم أن الاشتراكية هى تقدم ضد الرأسمالية بوصف الرأسمالية طبقة رجعية ، وهو فى صياغاته الفكرية لا يركن الى الفكرة الماركسية الخاصة بالصراع الطبقي ، ويستبدل بها مفهوم الصراع الاجتماعي الذى يجعل المصير القومى هو المصير الحاكم الذى يشمل كل القوى" الحل الصحيح لمشكلاتها الاجتماعية " ( المنطلقات ص 181 ) بحسبان أن حل المشكل القومى يتضمن حلا للمشاكل الطبقية .
   أما الإقليمية فهي  فيما يرى نقيض القومية المكتملة ، وسواء كان أصحابها شعوبيين أو قبليين أو استعماريين أو رأسماليين أو بعض من الاشتراكيين ، وان الاستعمار هو من خطط حدود الأقاليم واعتبرها دولا . ثم هو يعتبر مؤسسة الدولة التى قامت على أساس إقليمي ومؤسسة الحزب التى تقوم على أساس إقليمي هي تجسيد سياسى للتجزئة ، والدولة الإقليمية هى التجسيد الكامل للتجزئة حتى إن كانت متحررة من السيطرة الاستعمارية ، فهى رجعية فاشلة بغير استثناء القومى منها ، وحتى إن قام بعضها تحت قيادة قومية . فان كان دولة فهو إقليمي ، وان كان حزبا فسعيه أن يعتلى دول إقليمية . ولابد أن يكون التنظيم القومى تنظيما قوميا فى تشكيله ( ص 203 ) .
   ويبقى بعد ذلك الأقليات القومية التى تكون مشمولة بالوفاء القومى المكتمل . وهنا يورد د/ عصمت بمنهجه القانونى والرأي الذى يختار القاعدة القانونية ثم يخضع لها بالتزام صارم .  فيذكر أن أى قسم يكون ذا قومية خاصة مكتملة يتعين أن يخلى بينه وبين قوميته وانفصاله وبناء دولته ، باعتبار ذلك موقفا عقيديا ثابتا . وهذا القسم موقفه موقف تحررى عندما يطلب حريته ، والقومية يتعين أن تلتزم حدود الوطن القومى . ولكن لا يصح قبول مزاعم أى جماعة تدعى أنها" أقلية قومية " طبقا لنظر خاطئ أو معيار ملتبس ، على ما تثير الدول الكبرى  فئات  من العروبة  ، سواء باعتبار الإقليم أو اللون أو العرق أو اللهجة مما تعتبر إعراضا .
 ونحن نفهم من خلاصة فكر د/ عصمت نقطة أساسية وهى حسمه فى رغبته نزع فتيل التنافي بين العروبة والإسلام من وجهة النظر القومية .
*****  


* محاضرة المستشار/ طارق البشرى فى الذكرى االعاشرة لرحيل الدكتور عصمت سيف الدولة فى 31 مارس 2006


الأحد، 20 مارس 2016

محاضرة عبد الوهاب المسيرى عن سيف الدولة

أننى حين بدأت أقرأ فى أعمال هذا المفكر العملاق وأنا حين استعمل المجاز ، استعمله بوعى وحذر شديد . فأنا استاذ شعر وأعرف قيمة المجاز ، وهو بالفعل مفكر عملاق وبسبب هذا تم تهميشه تماما مثل جمال حمدان ، مسألة مذهلة ، أنه فى خضم الثورة العربية فى مصر أهم مفكرين للقومية العربية فى مصر وهم جمال حمدان وعصمت سيف الدولة يتم تهميشهما ولا يستشيرهما أحد .
يعنى حسب تصورى أنه لم يلعبا أى دور فى التفاعل مع صناع القرار فى مصر أو فى العالم العربى . ما حدث مثلا  لجمال حمدان  بعد أن توفاه الله أننا نحتفل به ثم نعيد جثمانه مرة أخرى الى مقبرته و ننساه . فمثلا أنا لا أعلم هل ترك جمال حمدان أى أثر على علم الجغرافيا فى العالم العربى أم لا ؟ . هل ترك دكتور عصمت سيف الدولة أى أثر على علم السياسة ، على طريقة التفكير فى العلاقات الدولية وفى القومية العربية أم لا ؟ . أنا أعتقد أن ما حدث فى الخطاب التحليلى العربى أنه تم تسيسه بالمعنى السطحى بمعنى أنه أصبح خطاب يتعامل مع الحدث السياسى  وحسب ويتعامل معه كردة  فعل وليس كفاعل . بمعنى أن المفكر العربى هنا أصبح مفعولا به وليس فاعلا .  كما أبين فى معظم دراساتى . أن سبب هذا يعود الى أننا عرفنا مشروع النهضة العربية بأنه اللحاق بالغرب ومن يود اللحاق بالآخر عليه أن يكبت ابداعه بحيث يتحول الى مقلد وفى نهاية الأمر يتحول الى قرد ، ببغاء ، وهذا ما حدث للخطاب التحليلى العربى وبالتالى قمم مثل جمال حمدان ومثل عصمت سيف الدولة تشكل عبء على العاملين فى السياسة والعاملين فى الفكر . يعنى قراءة أعمال عصمت سيف الدولة مجهدة وأعمال جمال حمدان مجهدة أو ممكن قراءتها بشكل سطحى بمناسبة الذكرى العاشرة مثلا ثم ننساها بعد ذلك ونعود للرؤية الذرية المتناثرة التى نعيش فيها يوما بعد يوم وهى رؤية ليست كلية بأى شكل كان . أهم ما يميز أعمال جمال حمدان والدكتور عصمت سيف الدولة هو ما أسميه الغوص فى البعد المعرفى . ما هو البعد المعرفى ؟ .. البعد المعرفى عادة يدور حول ثلاثة محاور .. موقف من الله .. موقف من الطبيعة .. وموقف من الانسان . والثلاثة محاور يمكن التوصل اليها من خلال دراسة صورة الانسان الكامنة فى خطاب ما . فالنسبة للانسان أن سألنا هل هو مادة وحسب أم مادة وروح ؟ نحن فى واقع الأمر نسأل أيضا عن علاقة الانسان بالله . عن علاقة الانسان بالأرض ، فان كان الانسان مجرد مادة فهو جسد فهو جزء من الطبيعة فهو خاضع لحتميتها فهو غير قادر على التجاوز ، فهو حين ينظر للارض يراها باعتبارها مادة استعمالية لا يمكنه أن يطمح الى ما دون السقف المادى بسبب غياب الله ، بمعنى أنه من خلال صورة الانسان الكامنة فى خطاب ما ، يمكن أن نصل الى هذا البعد المعرفى وهو البعد الكلى والنهائى هو البعد الذى يحدد معنى كل المفردات فى هذا الخطاب . فحينما تقرأ مثلا احدى وثائق النظام العالمى الجديد يتحدثون عن حرية حركة السلع ، حرية حركة رأس المال ، تساقط الحدود ، لكنهم لايتحدثون أبدا عن الثقافة ـ عن الخصوصية ، لا يتحدثون مثلا عن هجرة العمالة من بلاد العالم الثالث الى بلاد العالم الأول بالعكس يضعون الآن القوانين التى تحد من هذا والجيوش التى تطارد المهاجرين . معنى ذلك أنهم ينظرون الى الانسان باعتباره كائنا اقتصاديا وينظرون الى العالم باعتباره مادة استعمالية ، فهو خطاب يدور بعده المعرفى فى اطار مادى محض  لكنه لا يفصح عن ذلك فتكون مهمتنا نحن هى أن نبحث عن البعد المعرفى حتى يمكن أن نحدد مضمون كل المفردات فى هذا الخطاب . وهذا ما يفعله الدكتور عصمت سيف الدولة ، ومن هنا اهتمامه بقضية الانسان ، بمعنى أنه من البداية  يحدد الاشكالية أنها اشكالية ما هو الانسان، كل كتاباته فى نهاية الأمر تصب فى هذا ، ولعل الدكتور زكى نجيب محمود فى مقاله الذى أرسله لى صديقى العزيز ابن الدكتور عصمت لقط هذه ، فى هذا المقال وهو مقال قصير ولكنه هام للغاية لأنه يرى أن هذه بداية فلسفة عربية حقيقية وليست مجرد تدريس فلسفة وانما ولادة فلسفة عربية ووجد أن الإسهام الأول والأساسى هو استعادة مقولة الانسان كمقولة مستقلة عن عالم المادة . كتابات الدكتور عصمت مفعمة بهذا ، أينما نظرت ستجد ذلك . لكن احب أن أضيف هنا أنه رغم هذا البعد الفلسفى المعرفى الذى يفصله عن الخطاب التحليلى المسيس بشكل تافه  وسطحى فى العالم العربى نجد أن قدميه راسختان فى التاريخ ، لا تمر صفحة واحدة دون أن يشير الى أحداث تاريخية محددة يفسرها بمعنى أنه لا يسردها وحسب وانما يضعها داخل نمط معين وبالتالى أنا فى تصورى تتحول المعلومات الى معرفة ومن ثم تولد المعرفة حكمة . لأنه أيضا الخطاب التحليلى العربى خطاب معلوماتى يتصور أن المعلومات هى المعرفة وأن الحقائق هى الحقيقة ، وهذا لا أساس له من الصحة . وهذا خلل ما بعده خلل . تلتزم أيضا رؤية الدكتور عصمت بالاتساع، رؤية بانورامية. بالاتساع يتحرك بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الهندية وتاريخ العرب قبل الاسلام وتاريخ المسلمين والانماط المختلفة من الاستعمار  وينحت مصطلحات كما سأبين فيما بعد . يتوجه بقضية العلمانية بطريقة جديدة كل الجدة . أنا أرى أنه لا بد أن يوضع معجم بالمصطلحات التى نحتها والمصطلحات التى استخدمها ووضع لها معنى محددا جديدا . هذه مسألة أصبحت معروفة الآن فى الغرب ،  أن نجد مثلا معجم لكانط من أعمال كانط ، نأخذ مثلا مصطلح ذى التجاوز يكتب أحدهم مقال عن مفهوم كانط فى التجاوز ومفهوم الأخلاق وهكذا ، لأنه فى كتابات .. مثل هذه يمكن للانسان أن يتوه وتضيع  البؤرة . أما لو كان معجم بهذا الشكل فهو يصلح كمفتاح لقراءة هذه الأعمال وهو لمساعدة الباحثين وبالذات الشباب لأنى أرى أن أحد  مشاكل الثقافة العربية الحديثة أنه لا يوجد تراكم . كلنا نبدأ من نقطة الصفر ونعيد اختراع العجلة كما يقولون . يعنى أنا اعترف انى لو كنت قرأت أعمال الدكتور سيف الدولة فى بداية رحلتى  الفكرية لوفر على هذا الكثير من العناء لكن الخريطة الفكرية غير متاحة لنا خاصة وأن كم الكتب الذى يصدر فى هذه الأيام ضخم جدا ولا توجد متابعة نقدية ، يعنى توجد شلل تكتب كل واحد عن الآخر أو اذا كان فيه متابعة فهى متابعة صحفية، صدر الكتاب الفلانى ، صدر الكتاب العلانى ، أما أن يقدم لنا كتاب يقال أن هذا مهم مثلا أو كذا . أنا اعتقد أن هذا غير موجود وبالتالى ان هذا ضيع على فرصة قراءة هذه الأعمال المهمة وان كان أيضا اشتغالى بالموسوعة مدة ربع قرن سبب فجوات ثقافية كثيرة عندى، يعنى لدرجة أنه كان هناك دائما دعابة فى منزلى أنه حينما كانوا يريدون منى ان أقرأ شيئا يقولون انه يوجد بضعة سطور عن اليهود لأن دى الطريقة الوحيدة التى كان من الممكن أن أقرأ لأنى وجدت أنه لو اشتغلت بأى شئ غير ما أكتب عنه لما أنهيت هذه الموسوعة .
نعود للدكتور سيف الدولة فنجد كما قلت أن جوهر فكره هو الانسان ، الانسان فى مقابل المادة . هذه هى الثنائية الأساسية فى فكره وكل كتاباته هو محاولة لاثبات أن الانسان غير خاضع لقوانين الحركة كما يقال أو القوانين المادية أو القوانين الحتمية طيلة الوقت يحاول ان يحرر مقولة الانسان من الحتميات المادية التى تتسم بها الفلسفة المادية ، ومن هنا الصفحات الطوال التى أفردها للحديث عن المادية بمعنى يعنى لما يشغل مفكر سياسى مثله نفسه ليس  بالحديث عن الاتحاد السوفيتى وانما بالحديث عن الفلسفة الماركسية فى ماديتها ، لا يمكن تفسير هذا الا أنه يحاول أن يخلص مقولة الانسان من حمأة المادة بحيث يظهر الانسان ككائن مستقل حر ، وطيلة الكتابات دائما مسألة حرية الانسان وقدرته على الاختيار مقدرته على التجاوز لأن الانسان فى الفلسفة المادية يطبق عليه السقف المادى لا يمكنه تجاوز هذا وان تجاوز هذا سقطت الفلسفة المادية ، فلابد أن يكون كائنا ماديا خاضعا لقوانين الطبيعة وتصبح المهمة البحثية والمعرفية هى معرفة قانون الضرورة ، وكما تعلمنا فى المدارس الماركسية فى المرحلة الماركسية من حياتنا أن الحرية هى معرفة قانون الضرورة بمعنى أنه لا يوجد معرفة خارج السقف المادى وهى ميزة الفلسفة المادية أنها مريحة تفسر كل شئ ، ولكن فى تصورى أن ما يفسر كل شئ لا يفسر أى شئ ، لأن جوهر الظاهرة الانسانية هو تركيبتها هى انها محاطة أو مفعمة بالأسرار. فى تعريفه للانسان وللإنسانية  بنجد أنه فى احدى الكتب يرفض ما يسميه بالمثلية ، أن الانسان والظاهرة الانسانية لا تعنى أبدا أن الانسان يشبه الآخر ، أن هناك خصوصية وهذا بالمناسبة فى العلوم الانسانية دائما يتم التأكيد عليه ، الظاهرة الطبيعية مضطردة هى نفس الشئ فى كل زمان ومكان بينما الظاهرة الانسانية تختلف من كل زمان ومكان . ومن كل فرد وآخر . وهنا نلاحظ أنه يضع أسس فلسفية للنظرية القومية بينما النظرية الماركسية تضع الأسس المادية ، تضع الأسس الفلسفية للنظرية الرومانية . أنه فى نهاية الأمر المسألة مسألة طبقية وان ازيلت الطبقات يظهر الانسان المجرد اللى هو بالمناسبة انسان عصر الاستنارة اللى هو الانسان الطبيعى . هذا الانسان الطبيعى الحضارة ليست جزء منه أضيفت له ، ولأنه اضيفت له فبالتالي يوجد تقريبا جوهر انسانى واحد يتجاوز الزمان والمكان ومن هنا تصبح القومية مرحلة من ضمن المراحل لابد من تجاوزها . ومن هنا الموقف الشيوعى كأن قضية فلسطين ان القضية هى قضية عمال وفلاحين وليست قضية قومية وليست قضية خصوصية وانه لو تعاون العمال والفلاحون اليهود مع العمال والفلاحين الفلسطينيين ويكون جميعهم ضد الأقطاع العربى والرأسمالية اليهودية يبقى توته توته خلصت الحدوته . لكن طبعا يعنى أنا أصلى مرة حضرت مؤتمر فى بغداد وقامت احدى عضوات الحزب الشيوعى وقالت أن الصهاينة طردوا العمال والفلاحين العرب ، فأخبرتها بس طردوا العمال والفلاحين والاقطاعيين واللصوص العرب .، طردوا الجميع ، ومعيار الطرد هنا لم  يكن الانتماء الطبقى ولكن المعيار هنا كان معيار قومى ، وفى هذا نهاية الأمر عنصرى .
الدكتور سيف الدولة يؤكد الخصوصية لأن وضع أساس فلسفى لمفهوم القومية العربية هو ضرورة انسانية . ومن أهم الأشياء فى كتابات الدكتور سيف الدولة أيضا أنه يستخدم الاستعمار ليس مرة أخرى كحقيقة أو كحدث أو كظاهرة سياسية وانما يستخدمه أيضا كمقولة تحليلية ، وثمة فارق لأن الفكر السياسى العلمانى فى العالم العربى ينظر للاستعمار وينظر الى الصهيونية باعتبارهما انحرافات عن جوهر الحضارة الغربية الانسانية ، وقد تعلمنا هذا يعنى أنه يجب أن نعجب يالثورة الفرنسية وننسى نابليون الذى جاء الى بلادنا ، يجب أن نعجب بالديموقراطية البريطانية وننسى الاستعمار البريطانى ، يجب أن نحارب ضد الصهيونية لكن أن نمجد قيم الحضارة الغربية الداعية الى العلمانية والاستنارة ، وبالتالى حدث انقسام فى العقل العربى ان احنا دائما كل سلبيات الحضارة الغربية نهمشها ونراها باعتبارها أمر طارئ غربى لا ينتسب الى جوهر هذه الحضارة . الدكتور عصمت سيف الدولة مرة أخرى لأنه بيصل الى البعد المعرفى لا يسكت فى هذا على الأطلاق ، وفى دراسته للحضارة الغربية نجده يستعيد الاستعمار لا كحدث سياسى ولكن كمقولة تحليلية فمثلا لاحظ شئ أنا فى الواقع أدهشنى أننى لم ألاحظه من قبل ، قال ان عادة الدول الاستعمارية تقوم بتوحيد مجموعة من الأمم زى ما حدث فى الهند . الهند فيها ما لايقل عن مائتى قومية وعدد من اللغات اعتقد يصل الى 700 أو حاجة من هذا القبيل ، فى أفريقيا يضمون مجموعة من القبائل وهكذا فتميل نحو التوحيد لكن فى العالم العربى العكس حدث ففرنسا استعمرت الجزائر والمغرب وتونس لكنها لم توحدهم ، انجلترا استعمرت مصر والسودان وفلسطين لكنها لم توحدهم أيضا ، قسمتهم. والآن بوش واسرائيل يحاولون تقسيم ما هو مقسم وتجزئة ما هو مجزئ. ويحاول أن يفسر هذا تفسيرات مختلفة من ضمنها ان الغرب أدرك أن العالم العربى عناصر الوحدة قائمة فيه وأن لو تحول الى وحدة حضارية اقتصادية واحدة لظهرت كتلة أخرى قوية فى العالم وهذا آخر ما يحتاجون اليه خاصة وأن هذه الكتلة وهى فى وسط العالم فى أهم موقع استراتيجى والآن ظهر البترول وهى أيضا قلب العالم الاسلامى . هنا ما حدث أنه استخدم الاستعمار مرة أخرى ليس كحدث سياسى وانما وصل الى البعد المعرفى الحضارى ويحاول تفسير بعض الظواهر فى هذا الإطار بنجد انه فى حديثه عن العلمانية أيضا لا يسقط التسطيحات المختلفة التى نسمع عنها الآن فيرى أن ثمة علاقة بين العلمانية والاغتراب ، العلمانية بتهميشها للدين فى نهاية الأمر تهمش الجانب الحضارى والانسانى فى حضارتنا العربية لأنه فى نهاية الأمر الاسلام هو الذى أدى الى مولد القومية العربية ، فى الواقع أنا اعتقد أن لو فكر الدكتور عصمت سيف الدولة تنبه له أبناء هذه الأمة ومفكريها لما حدث هذا الصدام الذى لا مبرر له بين التيار الاسلامى والتيار القومى وهو الصدام الذى شجعته الولايات المتحدة وشجعه الاستعمار الغربى ، بمعنى أنه الصدام الذى حدث بالذات فى مصر بين عبد الناصر والأخوان المسلمين ليس له أساس على الاطلاق ، وأنه لو كانت ثورة 23 يوليو أدركت بعض الأبعاد التى يطرحها دكتور عصمت لما حدث هذا الصدام على الاطلاق ، وأعتقد أنه لو حدث تعاون بين الفريقين لربما تمكنا من انقاذ هذه الأمة مما يحدث لها الآن لأنه بعد 1967 حدث التدهور الذى نرى نتيجته باعيننا الآن . سنختم بالحديث عن مصطلح نحته دكتور عصمت وهو مصطلح "الامبريالية الحضارية"  وانا اعتقد ان هذا المصطلح  فى غاية الأهمية لأنه تنبؤ بالنظام العالمى الجديد ، النظام العالمى الجديد يطالب بفتح الحدود وا.. وا .. الخ بدون تقديم أى صورة للانسان لكن ما يحدث انه مع سطوة الإعلام يتم تسويق صورة مشوهة للانسان تحدد سلوكنا والأسوأ من هذا أنها تحدد أحلامنا أيضا ويصبح التقدم هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك . وبالمناسبة ايضا فى كتابات دكتور عصمت  فيه حديث مطول عن التقدم وعن مفهومه فى الحضارة الغربية ومحاولة لتقديم نقد أيضا معرفى لهذا المفهوم الذى استوردناه والذى استخدمناه دون معرفة أى منفذ لنا . حتى اختم أعتقد أنه خسارة تاريخية كبرى أن الفكر القومى العربى فى مصر وخارجها والنخب الحاكمة ذات التوجه القومى لم تستفد أبدا من فكر الدكتور عصمت وأنه لو كان حدث هذا أعتقد  أن مسار التاريخ فى هذه المنطقة لاختلف بعض الشئ . وهو من البداية دكتور عصمت أدرك خطورة اسرائيل يعنى تأكيده على مسألة القومية العربية يعنى انا دائما اتكلم وأقول أن الدكتور عصمت رؤيته البانورامية طيلة الوقت مهتم بما أسميه الآن المرجعية النهائية أن أى مجتمع على وجه الأرض له مرجعيته النهائية ، وأن هذا المجتمع ، أى مجتمع ، ان لم تكن عنده مرجعية نهائية يحددها بنفسه فان الآخرين سيحددون له . ومسألة تعريف المرجعية  النهائية أصبحت أساسية بعد الاختراق المعرفى الذى حدث . فى الماضى كانت تأتى الجيوش وتغزونا ثم نهزمها فتعود كما حدث فى الممالك الصليبيبة ، أما الآن فلا حاجة للجيوش والفضائيات تتكفل بتصدير الاحلام لنا بتحويلنا الى كائنات استهلاكية . وما يحدث الآن فى العالم العربى أن المرجعية النهائية تتغير وأصبحت بالتدريج مرجعية مادية وبالتالى فى علاقتنا باسرائيل كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الدولة ان كانت مرجعيتنا النهائية اقتصادية اذن الكويز مسألة مطلوبة لأن المعيار هنا اقتصادى وان كانت الكويز غير مربحة اذن فلنتاجر مع اوكرانيا أو قبرص أو مع سوريا يعنى المسائل من منظور اقتصادى محض حسابات المكسب والخسارة واضحة . لكن لو كانت المرجعية النهائية عربية اسلامية  تختلف المسألة تمام الاختلاف والدكتور عصمت دائما يصر على البعد الاسلامى للقومية العربية لا يفرق بينهما . ان كانت المرجعية النهائية عربية اذن رؤيتنا لهذه المنطقة أنها ليست مجرد سوق للسلع الغربية أو العربية والصينية وان الانسان العربى عنده موروث ماضى وأن هذا الماضى متحقق الآن  فى الحاضر وأنه أساس لرؤيتنا فى المستقبل ، وفى هذا الأطار تصبح اسرائيل جسد غريب زرع لسبب معين والسبب المعين هذا نعرفه جيدا وهو تقسيم وفصل العالم العربى ، والدكتور عصمت سيف الدولة يؤكد على هذا تماما كما فعل جمال حمدان كلاهما لأنه وصل الى البعد المعرفى وحدد المرجعية النهائية أصبح من المستحيل قبول اسرائيل أصبح من المستحيل  التطبيع معها ، أصبح من المستحيل التعاون معها لأن هناك رؤية كبرى حاكمة لكل التفاصيل ، هذا على عكس النخب الحاكمة الآن المستعدة للمساومة . انظروا ماذا يحدث لحماس فى فلسطين والسلطة الفلسطينية التى تطالبه بالاعتراف باسرائيل بدلا من أن تسانده وتقف الى جانبه تطالبه بالاعتراف باسرائيل وان رئيس الدولة الذى كلف هنية بتشكيل الوزارة يجب أن يشكلها فى اطار مرجعيته النهائية المتخاذلة المستسلمة .
فى اطار فكر دكتور عصمت سيف الدولة مثل هذا مرفوض وهو مفروض كما قلت لا لاسباب سياسية وانما لأسباب معرفية فلسفية تضرب بجذورها فى الطبيعة البشرية القادرة على تجاوز الحتمبات المادية وعلى تجاوز السطح المادى .
    وأقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم
                          وشكرا ..
*****
القي الدكتور/ عبد الوهاب المسيرى هذه المحاضرة فى احتفالية الذكرى العاشرة لرحيل الدكتور عصمت سيف الدولة فى 31 مارس 2006


مع المقاومة الشعبية ضد الاحتلال 1952


صورة تذكارية لكتيبة (محمد فريد) تحت قيادة الشاب ‫عصمت سيف الدولة (29 سنة) إحدى كتائب الحزب الوطنى (مصطفى كامل)، فى المقاومة الشعبية ضد القوات البريطانية فى القناة فى يناير 1952

الخميس، 17 مارس 2016

مقدمة كتاب عن العروبة والاسلام


    في الوطن العربي طائفتان اختلفتا فاتفقتا . طائفة تناهض الإسلام بالعروبة وطائفة تناهض العروبة بالإسلام فهما مختلفتان . وتجهل كلاهما العروبة والإسلام كليهما فهما  متفقتان . وأنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل تكاد تضل الشعب العربي المسلم عن سبيله القويم . وأنهما لتحرضان الشباب العربي على معارك  نكراء تكاد تلهيه عن معركة تحرير أمته .
   هذا حديث إلى الشعب العربي عن الطائفتين تباعا . سيقول نفر ممن يقرأونه : ما بال هذا الرجل يتلو آيات الكتاب لا يلتمس فيها عونا من رجال الدين ، فنقول لأننا مسلمون ، ولا كهانة في الإسلام . وسيقول نفر : ما باله يتحدث عن الأمة العربية لا يلتمس عونا من مفكريها ؟ فنقول لهم : هذا مذهبنا الإسلامي في القومية ومذهبنا القومي في الإسلام ، فلينظروا ماذا هم فاعلون . أما الطائفتان فسينظرهم الشعب العربي إلى حين *لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ*(يونس:46) صدق الله العظيم .
                                                            عصمت سيف الدولة
                                                                سبتمبر 1985




الأربعاء، 16 مارس 2016

لماذا يركع الانسان؟

لماذا يركع الانسان ؟
هو الاسم الذى اطلقه الدكتور عصمت سيف الدولة للتمثال الذى قام بنحته فى السجن عام 1972
ولا يزال السؤال مطروحا؛ لماذا يختار بعض الناس الركوع أمام الاحتلال أو الافقار أو الاستعباد والاستبداد؟

الثلاثاء، 15 مارس 2016

الاعتقال الأول عام 1972


العام : 1972
المتهم : عصمت سيف الدولة وآخرون
التهمة : تأسيس وإدارة تنظيم سرى يستهدف اسقاط "نظم الحكم فى مصر وجميع الدول العربية، بغرض بناء دولة عربية واحدة.
العقوبة : السجن 10 سنوات ، قضى منها عام ونصف قبل الطعن والبراءة.

الاثنين، 14 مارس 2016

جدل الانسان - زكى نجيب محمود

جدل الإنسان

 

لست اشك لحظة واحدة فى اننا حين نحصد حصادنا ذات يوم، لنلتمس بين سنابله وأعواده "فلسفة عربية"، سيكون الدكتور عصمت سيف الدولة فى كتابه "اسس الاشتراكية العربية" بين الطلائع القوية التى أسهمت فى تكوين الفلسفة العربية المعاصرة.    

الدكتور زكى نجيب محمود

مجلة الفكر المعاصر

8 اكتوبر 1965

***

ظاهرة تستوقف النظر فى ميدان الفكر الفلسفى ، على اختلاف العصور ، وفى شتى اقطار الارض ، وهى ان ذوى الأصالة من اصحاب هذا الفكر يغلب ان يكونوا من هواته ، وقل ان يكونوا من محترفيه، وربما كانت العلة فى هذا ، هى ان هؤلاء المحترفين تشغلهم دراسة المذاهب القائمة بتفصيلاتها وتفريعاتها ، حتى تغرقهم امواجها ، فلايجدون لانفسهم من الفراغ مايمكنهم من الانصراف الى تناول المشكلات الحية بالتفكير المبتكر الاصيل ، او ربما كانت العلة هى ان هؤلاء المحترفين على صلة اوثق من سواهم بعمالقة الفكر الفلسفى ، فيكونون اقرب الى استصغار انفسهم واستخفاف جهدهم ، اذ ماذا فى وسعهم ان يقولوا – هكذا يوحون الى انفسهم – بالقياس الى ماقاله العمالقة الضخام ؟ وانظر على سبيل المثال الى الفلاسفة الانجليز منذ عهد النهضة الى اليوم : فرانسيس بيكن ، جون لوك ، باركلى ، هيوم ، جون ستيوارت مل ، برتراند رسل ، تجدهم جميعا من غير جماعة المحترفين ، لا بل ان منهم من حاول جهده ان يجد طريقا الى كرسى الاستاذية فى الجامعات – مثل هيوم – فلم يوفق بحجة انه لم يؤهل للاستاذية فى الفلسفة ! لكنهم يخرجون مذاهبهم فى مؤلفاتهم ، فما هو الا ان تصبح تلك المؤلفات نفسها مشغلة الدارسين فى اقسام التخصص بالجامعات .
   ان فى جونا الفكرى العربى هذه الايام لسؤالا ملحا يتردد على السنتنا فيما نكتبه ونذيعه ، وهو : متى وكيف تكون لنا فلسفة عربية خالصة ، نشارك بها فى قضايا الفكر العالمى والمحلى مشاركة تحمل طابعنا الاصيل ؟ وان مثل هذا السؤال نفسه ليتضمن بدوره سؤالا اسبق ، وهو : ماذا تكون العناصر الاساسية التى تكون طابعنا الاصيل ، هذا الطابع الذى ننشد ان يميز الفلسفة العربية التى نرجوها لانفسنا ؟ تلك اسئلة نلقيها فى جونا الفكرى لنتلقى عنها الجواب ، ومااكثر مايحاول بعضنا ان يجيب بمقالة هنا ومقالة هناك ، محاولا ان يضع " الفلسفة العربية " المنشودة آخر الامر لا اول الأمر ، اذ تجئ حصيلة محاولات جزئية ، ثم تأخذ هذه المعالجات الجزئية فى التراكم والبلورة حتى تنتهى الى نقطة التقاء ، تكون هى " المبدأ " الدفين وراء محاولاتنا ، شريطة ان نخلص أنفسنا من الافتعال والتكلف ، ونبرئ انفسنا بادئ ذى بدء ، وقبل طرح المشكلات الحية ، بما  عساه ان يصير " فلسفة عربية " متميزة من فلسفات العالمين ، بل نقبل على مشكلاتنا بعقل صاف منزه عن الهوى ، لنرى فيه الراى ، ثم لتتجمع الاراء آخر الأمر وتتجسد ، لعلها تنتهى – وقد لاتنتهى – الى " مبدأ " فكرى تتميز به ، فيكون هو " مبدؤنا " الفلسفى – أقول " وقد لاتنتهى " لأننا قد نجد انفسنا على مشاركة مع جمهرة المفكرين فى سائر الارض ، فى مبادئ بعينها وفى افكار اساسية ينبنى عليها الفكر الفلسفى المعاصر جميعا .
   وانى لأمهد بهذا الذى اسلفته للاشادة بثمرة ناضجة من ثمار الفكر الفلسفى العربى المعاصر الاصيل ، قدمها مفكر – من غير رجال الفلسفة المحترفين – حين اراد ان يعالج موضوعا هو فى صميم الصميم من حياتنا الفكرية وحياتنا العملية على السواء ، واعنى به "اسس الاشتراكية العربية "، فماذا تكون هذه الاسس ، وعلى اى وجه تخالف او توافق النظرية الاشتراكية فى عمومها كما عرفناها على ايدى اصحابها من مفكرى اوروبا ؟ . لكنه اذ عالج موضوعه هذا ، قد عرض علينا نمطا ممتازا من العقل الفلسفى الذى يحلل ويستقصى الامور الى جذورها وبذورها ، ثم يعود بعد التحليل الى تركيب الحكم الذى يرتئيه لنفسه غير متأثر فى هذا الا مما يهديه من منطق سديد صارم ، لاعاطفة فى ثناياه ولا هوى ، وهو حكم لايدعه عائما كالقشة الخفيفة على سطح الماء ، بل تراه يعمق به الى الاغوار ، ليدرج تحته كل مااستطاع من اوجه الحياة ، ومثل هذا هو ماعنيته بقولى : ان فلسفتنا العربية المنشودة انما تجئ بعد – لاقبل – ان تنصب جهدنا الفلسفية على شرائح مختلفة من جسم الحياة ، فهذا هنا يحلل فكرة ، وذلك هناك يحلل فكرة اخرى، وثالث يحلل فكرة ثالثة ، ثم نرى : هل التقينا او لم نلتق فى هذه التحليلات الى قاع واحد مشترك ؟ ولست اشك لحظة واحدة فى اننا حين نحصد حصادنا  ذات يوم ، لنلتمس بين سنابله واعواده "فلسفة عربية " ، سيكون الدكتور عصمت سيف الدولة فى كتابه " اسس الاشتراكية العربية "بين الطلائع القوية التى اسهمت فى تكوين الفلسفة العربية المعاصرة ، وفكرته الرئيسية هى حكم يستخلصه من التضاد القائم بين فلسفتين جدليتين ، هما فلسفة هيجل من ناحية ، وفلسفة ماركس من ناحية اخرى ، فالأولى مثالية جدلية ، والثانية مادية جدلية ، الاولى تقصر نفسها على مسار المادة وحدها ، فلماذا لاننظر الى هاتين الفلسفتين الجدليتين بنظرة جدلية ، تجعلهما بمثابة "الدعوى " و " نقيض الدعوى " لنؤلف بين النقيضين فى كيان يجمعهما ، وهو " الانسان " الذى فيه اجتمع الفكر والمادة معا ، بحيث نقول ان الجدل – اى التطور – لاهو مقصور على الفكر النظرى وحده ، ولا على المادة المجسدة وحدها ، بل هو " جدل الانسان "؟.
   ففكرة " الجدل" – كما ترى – محور اساسى يدير حوله كاتبنا مناقشاته وتحليلاته واحكامه ، فهو يرفض " جدلا " ليحل محله " جدلا " ، وانى لأشعر ان من حق قارئي على ان اوضح له هذه الكلمة التى شاع استخدامها فى الكتابات الفلسفية شيوعا واسعا ، ويقينى ان لها فى الاسماع "العربية " وقعا غريبا لاختلاف معناها فى الحديث اليومى الجارى عن معناها وهى مصطلح فلسفى ، ولست اكتم القارئ اننى لم اطمئن ابدا لهذه الكلمة فى معناه الاصطلاحى ، وكنت  اتمنى للمشتغلين بالفلسفة عندنا ان يهتدوا الى ترجمة اخرى ، برغم انى اعلم انها هى الكلمة التى استخدمها العرب الاقدمون ترجمة "للديالكتيك " فى المنطق الارسطى ، لكنها عندئذ كانت فى معناها الفلسفى قريبة بعض الشئ منها فى معناها الدارج المألوف ، اذ هى فى هذا المعنى الثانى تشير الى اصطراع رأيين او عدة اراء يدلى بها المتجادلون فى موضوع ما ،  ابتغاء الوصول الى نتيجة تظفر  بالقبول عند الجميع وكذلك كانت فى معناها الفلسفى عندئذ تنطوى على معارضة الاراء المختلفة بعضها مع بعض للوصول الى نتيجة تخلو من التناقض .
   لكن "الجدل " انتقل على يدى هيجل من معنى الى معنى ، فبعد ان كانت هذه الكلمة طوال العصور السابقة دالة على " طريقة الاستدلال  اصبحت عند هيجل دالة على " طريقة سير " مراحلها مثلثة الخطوات ، وجاء ماركس فاستخدمها بهذا المعنى الهيجلى نفسه لتدل على " طريقة سير " – لا على طريقة استدلال كما كانت فى تاريخها الماضى – وطريقة السير عند ماركس هى كما كانت عند هيجل قوامها مراحل مثلثة الخطى ، وكل الفرق بينهما – كما هو معلوم – ان " السائر عند هيجل " تيار من فكر ، واما " السائر " عند ماركس فهو تيار مادة ، لكن طريقة الخطو فى الحالتين واحدة ، وهى ان ينتقل " السائر " – فكرا كان او مادة – من وضع الى نقيضه ثم الى وضع ثالث يجمع النقيضين فى كيان واحد .. ولهذا لم اعد ارى كلمة "الجدل " – بما توحيه الى الذهن من معنى الحوار اللفظى – صالحة كل الصلاحية  ( فى اللغة العربية على الاقل ) للدلالة على مثل هذا السير التطورى الصاعد .
   وايا ماكانت التسمية ، فحسبنا ان نكون على وعى بالمعنى المقصود ، لأن ذلك يساعد على وزن الفكرة الجديدة التى يعرضها المفكر العربى الدكتور عصمت سيف الدولة ، وهى الفكرة التى يزعم بها ان " الجدل " لايكون للفكر وحده ولايكون للمادة وحدها ، بل يكون " للانسان " قاصدا بذلك ان الذى " يتطور "صاعدا الى اعلى فأعلى ، سالكا فى صعوده تلك المراحل المثلثة الخطى ، انما هو " الانسان " بجملة مقوماته  العضوية من فكر ومادة ، واما الطبيعة المادية فى حد ذاتها فلا تعرف مثل هذا السير ، وكذلك لايعرفه الفكر المجرد المطلق الذى لايتجسد فى انسان معين تحيط به مشكلات معينة ويريد لها حلولا معينة ، ولماذا يصر مفكرنا العربى على ان يكون " المتطور " هو الانسان ؟ انه يفعل ذلك لاصراره على ان يكفل للانسان حريته ، وذلك لاننا سواء اخذنا بمثالية هيجل او بمادية ماركس ، فاننا فى كلتا الحالتين نلغى ارادة الانسان الحرة ، ونجعله خاضعا لسواه فى توجيه سيره ، ولا فرق – من هذه الناحية – ان يكون ذلك " السوى " الذى يسير الانسان وجودا من فكر او وجودا من مادة ، وماذا يكون الانسان اذا لم يكن مبدعا خلاقا ؟ فاذا احلنا عملية الخلق والابداع الى كائن آخر – مهما تكن طبيعته ، وحتى اذا جعلت الانسان نفسه جزءا منها – فقد سلبت الانسان اخص خصائصه  التى تميزه من الطبيعة وتميزه من بقية الكائنات العضوية على السواء.
   انه لمحال علينا ان ندرك حقيقة الانسان اذا درجناه فى مقولة اعم منه تشمله كما تشمل سواه ، لأن للانسان طبيعة نوعية لايجوز تجاهلها ، اهم جوانبها انه متطورة على النحو الذى يوصف بالحركة الجدلية ، وان سواها لايتطور على هذا النحو ،   فلئن كانت للطبيعة قوانينها التى لا قبل للانسان بتغييرها ، ففى ظل هذه القوانين نفسها يستطيع الانسان – دون سواه من الكائنات – ان يرسم طريق سيره الى المستقبل الذى ينشده – وفى سير الانسان من ماضيه الى مستقبله يعرض الدكتور سيف الدولة فى كتابه فكرة من اروع افكاره ، مؤداها ان الانسان وهو محوط بظروف راهنة يريد تغييرها ، سيجد نفسه مسبوقا بماض يستحيل عليه ان يغير منه شيئا ، سيجد نفسه مسبوقا بماض يستحيل عليه ان يغير منه شيئا ، وسيجد نفسه كذلك خاضعا لما يخضع له كل شئ فى الطبيعة من قوانين ، لكن هل يحد هذا وذاك من حريته فى بناء مستقبل يريده ؟ لا ، بل ان تلك القيود نفسها هى الشرط الذى لابد من توافره ليحقق حريته فى بناء مستقبله ، لأن الامر لايخرج عن احد احتمالين : احدهما ان يترك الماضى ليمتد فى المستقبل مدفوعا بما يكمن فيه من عناصر وعوامل وبما تقتضيه قوانين الطبيعة للاشياء ، وعندئذ يسير الانسان محمولا على موج التيار المندفع بقوته التلقائية، لايملك لنفسه اختيارا ، والاحتمال الثانى هو ان تكون للانسان القدرة – لاعلى تغيير الماضى ولا على الغاء القوانين الطبيعية – بل على ان يمسك بزمامهما ليسير بهما حيث يريد .
   وفى التضاد الكائن بين المستقبل التلقائى ( اعنى المستقبل الذى يجئ امتدادا للماضى متروكا لعوامله وحدها تسير وفق سنن الطبيعة بلا تدخل ) والمستقبل المرسوم المدبر ( اعنى المستقبل الذى يخلقه الانسان لنفسه مستفيدا بعوامل الماضى وبقوانين الطبيعة ) . اقول ان فى هذا التضاد يكون الصراع الذى لابد منه لتتوافر الاركان الضرورية للسير على طريقة " الجدل " فلئن كان مااسماه مفكرنا العربى " بجدل الانسان " متفقا مع " الجدلين " الآخرين : جدل الفكر عند هيجل ، وجدل المادة عند ماركس ، فى عدم الفصل بين الحرية والضرورة ، بحيث لايرى فى الحرية تحديا لضرورة القوانين العلمية ، بل يرى فيها   استخداما لتلك القوانين ، فان " جدل الانسان " يختلف عن "الجدلين " الآخرين فى انه يجعل للانسان قانونا خاصا به وحده دون الطبيعة المادية ودون الفكر المطلق ، الا وهو قانون الجدل ، الذى يتيح للانسان ان يتطور فى حياته تطورا صاعدا ، ومن هنا – كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة  فى كتابه – يكون لحرية الانسان معنى خاص مختلف عن معناها فى المثالية الجدلية وفى المادية الجدلية كلتيهما .
   " فاذا كان الفكر المجرد منضبطا على قوانينه الخاصة ، وكانت الطبيعة المادية تتحول طبقا لقوانين حتمية ، فان حركة الانسان – او حريته – تخضع للقوانين الخاصة بالانسان نفسه "
   مامؤدى هذا كله ؟ مؤداه – فيما نرى – ان المفكر العربى اذ هو يحاول البحث فى اصول الاشتراكية العربية ، قد وقع على خاصة مميزة نرجح لها ان تكون من اهم العناصر التى منها ستتكون آخر الامر ماسوف نسميه – بعد استكمال مقوماته – " فلسفة عربية معاصرة " ، واعنى بتلك الخاصة المميزة حرصنا الشديد على ان نكفل للانسان حرية الارادة ، لانها هى وحدها شرط المسئولية الخلقية التى تكون ركنا من اهم اركان العقيدة التى ندين بها ، بحيث ترانا ننفر نفورا يكاد ينبثق من طبيعتنا الفطرية من كل مذهب يسوى بين الانسان وسائر ظواهر الكون الاخرى ، نعم ان التحليل الفلسفى  الصرف قد ينتهى بالباحث احيانا الى القول بالا فرق من حيث البحث العلمى بين ظاهرة الانسان واى ظاهرة اخرى من ظواهر الوجود ، لكننى على يقين من ان الباحث منا حين ينتهى به بحثه الى نتيجة كهذه يحس قلقا بين قلبه وعقله ، واننى لأشهد الله انى قد عانيت فى حياتى الفكرية مثل هذا القلق على نحو طالما اشتد بى حتى اضطربت له نفسى ، فكم ذا يتحقق لنا من طمأنينة النفس اذا ماجاءنا باحث يقيم على منطق العقل – لا على نزوات الهوى – مانتمنى له ان يقام ، وهو ان الانسان كائن متميز فريد .
   لقد كانت لى ذات يوم مقالة حاولت فيها ان ابين ماذا تكون " الامانة " التى جاء فى الآية الكريمة انها عرضت على السموات والارض وحملها الانسان ، فقلت انها لابد ان تكون الارادة الحرة ، التى ان يكن صاحبها معرضا للخطأ فيما يختار ومايدع ، الا انه هو القادر على اختيار الصواب ، بل هو قادر على ان يبتدع هذا الصواب ابتداعا ، وعليه تقع تبعة الخطأ ، ولكن اليه وحده يتجه الثواب فى حالة التصويب ، فحوادث الطبيعة تحدث فى اطراد هو القانون الذى لايخطئ ، بحيث نستطيع التنبوء لاى شئ ماذا يحدث له لو توارت الظروف الفلانية .: اين يقع الحجر الملقى ومتى يسقط المطر ، وفى اى لحظة تنكسف الشمس او ينخسف القمر ، فليس لهذه الظواهر كلها مناص من الحدوث فى مستقبلها على نحو ما قد حدثت فى ماضيها ، نعم ان الطبيعة لاتخطئ لان طريقها قد رسم لها رسما لاانحراف فيه ولاشذوذ ، لكنها كذلك لا فضل لها فى صوابها ، اذ قد اعفيت من حمل الامانة – امانة الاختيار الحر الذى ربما تعرض للخطأ فى محاولته فعل الصواب ، لكن جزاءه الاكبر هو انه من حالات صوابه يتطور من حال الى حال ، فيخرج من الكهوف الى حيث يمرق فى الفضاء الكونى الفسيح .  واذا  فنحن على اتفاق فى هذه السمة التى يرجح لها ان تكون من ابرز السمات فيما عسى ان يتكون بين ايدينا لنطلق عليه اسم الفلسفة العربية ، على ان ثمة  غيرها سمات اخرى وسمات  نظل نتصيدها من طرائق تفكيرنا ومشاعر وجداننا ومواضعات سلوكنا ، نتصيدها فى مقال مقال  وفى كتاب كتاب ، ومن شذرات الصيد قد تتم لنا المائدة بعد حين .
*****



الأحد، 13 مارس 2016

الذكرى العشرون

تحل هذا العام الذكرى العشرون لرحيل المفكر القومى الدكتور عصمت سيف الدولة ، الذى توفى فى 31 مارس 1996، تاركا رصيدا ثمينا من الكتب والمؤلفات التى تتناول هوية الأمة العربية ووحدتها وواقعها، ومشكلاتها وحلولها. وتميز عليه رحمة الله فى كل ما طرحه من افكار، بالانطلاق من، والاحتكام الى، معايير منهجية صارمة، أعطت لكل ما قدمه من أفكار و رؤى ونظريات وتوقعات، صلابة علمية، استطاعت أن تتحول بحكم منهجيتها وعلميتها واختبارها ومصداقيتها الى ان تُكَّون مدرسة فكرية ثورية جديدة ومتميزة ومستقلة امتدت فى ربوع الوطن العربى بأقطاره المختلفة، ولاقت قبولا وإقبالا واقتناعا واعتناقا من قطاعات واسعة من الشباب العربى، منذ منتصف الستينات من القرن العشرين، وحتى يومنا هذا.
وسنحاول بمناسبة حلول الذكرى العشرين لوفاته، أن نجعل من هذه الصفحة نافذة للأجيال الجديدة، للتعرف على منهج وأفكار ونظريات ومواقف سيف الدولة، كما نأمل أن تكون الصفحة كذلك ساحة للحوار والتفاعل بين تلاميذه من المنتمين الى مدرسته المنهجية والحاملين لمشروعه الفكرى والثورى، الذى اختار ان يطلق عليه "نظرية الثورة العربية".