السبت، 8 أكتوبر 2016

الحرب الاخيره

الحرب الاخيره

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

الآن وقد مضى اكثر من عام على حرب اكتوبر 1973 وهدأت الانفعالات الايجابية والسلبية التي اثارها النصر المحدود الذي تحقق . اصبح من الممكن الحديث عن الحرب التي مضت من اجل الحرب القادمة حديثا هادئا وموضوعيا نضعه تحت انظار جميع الاطراف المعنية، ونوجهه الى جماهير أمتنا العربية الاصيلة الغائبة.
***
ما الذي حدث في حرب اكتوبر 1973؟
في الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 اكتوبر 1973 اشتبكت جيوش مصر وسوريا مع جيوش العدو الصهيوني في حرب رابعة اكثر ضراوة من الحروب الثلاثة السابقة (1948- 1956- 1967)  وان كانت تكرارا لها من حيث هي اسلوب . واستطاعت القوة العربية ان تقتحم القناة وان تدمر خط بارليف وان تطارد جند الصهاينة الى ان توقف القتال بناءً على قرار مجلس الامن رقم 338 الصادر في 22 اكتوبر 1973 . وكما حدث من قبل لم يستجب العدو للقرار الى ان كسب أرضا جديدة انسحب منها بعد ذلك نتيجة مساع دبلوماسية ووقف الامر عند الحد الذي هو عليه الان.
***

في خلال تلك الحرب تلقت الدول العربية المحاربة اقصى تأييد ممكن من باقي الدول العربية.  لم تتخلف دولة عربية واحدة عن الاسهام في المعركة بما تستطيع وتقبل . وبلغ التعاون العربي ذروته.  وثبت من كل هذا ان الدول العربية قد اختارت اكثر الظروف ملاءمة لمعركتها الرابعة.  نجحت تماما في بناء قواتها المسلحة وتدريبها وتسليحها فأنزلت بالصهاينة خسائر فادحة وأوقفت التفوق "العسكري الاسرائيلي وحطمت هيئة المؤسسة العسكرية الصهيونية وجرعت الآباء والامهات في اسرائيل كؤوس الاحزان التي كانت حتى ذلك الحين مقصورة على شاربيها من العرب. ونستطيع ان نقول انها دست في افئدة كثير من الاسرائيليين بذور الشك في الحل الصهيوني لمشكلاتهم . ثم انها نجحت تماما في كسب الرأي العام العالمي لمعركتها. الصين معها وتتجاوزها . الكتلة الاشتراكية معها وهو كسب قديم . دول اوروبا الغربية على الحياد عامة وهو كسب كبير.  دول افريقيا تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع اسرائيل تباعا وهو كسب على اي حال . ولم تبق الا الولايات المتحدة الامريكية التي وضعت ثقلها العسكري في ميزان القوى في ميدان القتال فاعتدل شيئا ما لحساب اسرا ئيل حتى لاذت بحلفها مع الاتحاد السوفيتى تأمران بايقاف اطلاق النار فوقفت النار.  والوضع ان لم يكن في صالح الدول العربية تماما ، فهو في غير صالح اسرائيل على وجه اليقين . وهو كسب جديد للدول العربية بالقياس الى الحروب السابقة.  ونجحت الدول العربية تماما في استثمار العلاقات فيما بينها وبين الدول الاجنبية، فقدمت الدول العربية كل ما استطاعت وقبلت من عون مالي وزادت دول البترول فقررت تخفيض الانتاج وحجبه عن امريكا وهولنده.... والحصيلة النهائية انها كسرت جمود الموقف السابق على 6 اكتوبر 1973 وجعلت من عام 1973 عامها هي بدلا من عام اوروبا فتلقت وعداً مضمونا من الثنائي السوفيتي الامريكي بتطبيق قرار مجلس الامن رقم 242 وما تزال تنتظر الوفاء بالوعد المضمون
في ظل الظروف الدولية والعربية التي وقعت فيها حرب اكتوبر، انتصرت الدول العربية على اسرائيل. انتصرت بمعنى انها خططت واعدت وقاتلت وحققت ما تريد من القتال . وهذا نصر بالنسبة الى صاحبه. انه النصر الممكن منسوبا الى الدول العربية.  وهذا يعني بوضوح انه اذا كان ثمة من لا يرضيهم ما تحقق في ساحة القتال او على المستوى السياسي فان عليهم ان يسلكوا الى ما يريدون طرقا اخرى لا تمر بالدول العربية وقيود الاقليمية التي تكبلها.  ان اي انسان على قدر من الوعي بحقائق الظروف العربية القائمة وبوجه خاص حقائق الاقليمية لا يمكن ان يحمل الدول العربية اكثر مما تحتمل موضوعيا او ان يتوقع منها اكثر مما تستطيع.
والدول العربية في واقعها الاقليمى لا تستطيع الا ان تستثمر امكانياتها المتاحة ماديا وبشريا ودوليا باكبر قدر من الكفاءة . ولا تستطيع ان تحقق من الغايات الا ما يقع في حدود امكانياتها.  سواء كان هذا في ساحة القتال أو في مجال التعاون المتبادل فيما بينها أو في خضم الصراعات الدولية وموازينها الثقيلة.  وقد استثمرت الدول العربية امكانياتها بأكبر قدر من الكفاءة . كفاءتها هي وحققت من الغايات ما يتفق مع تلك الامكانيات الموضوعية والذاتية فلا يمكن ان ينكر عليها احد ـ بحق ـ نصرها الذي تم .
نقول هذا لنؤكد امرا ونطرح امرا ثانيا :
الامر الاول انه لم يحدث من الدول العربية تقصير جسيم كان كفيلاً - لو لم يقع-  بتغيير النتائج النهائية تغييرا كبيرا سواء في ساحة القتال او في النتائج السياسية التي ترتبت عليه.  ان الجزئيات هنا غير ذات اهمية كبيرة في تحديد الصورة النهائية للموقف.  فلا ينبغي أن نتجاهل الموقف العام لنسند الى فرد أو مجموعة من الافراد أو دولة أو مجموعة من الدول اخطاء.  قد تكون صحيحة ولكنها على اي حال ليست حاسمة.  ما وقع كما هو يمثل غاية طاقة الدول العربية المحاربة كما هي في احسن ظروفها.  حتى الدول العربية التي لم تحارب لم يكن موقفها السلبى من القتال المسلح بخلا بأرواح رعاياها ولكنه كان تجسيدا لواقعها الموضوعي . انها ببساطة عاجزة موضوعيا عن القتال المسلح.  وبالتالي لا محل لفتح أبواب الاوهام الاقليمية من جديد.  لو كان فلان غير فلان، لو كان اولئك مكان هؤلاء-  لو وقفت هذه الدول ذلك الموقف لاستطاعت الدول العربية ان تحقق اكثر مما حققت.  ابدا ما كان يمكن تحت اي ظرف ولن يكون ممكنا تحت أي ظرف ان تحقق الدول العربية اكثر مما حققت في ظروفها الدولية القائمة.  لأنها ـ في الواقع ـ قد حققت ما حققت في افضل الظروف توقيتا وتسليحا وقتالا وتعاونا ودبلوماسية .
ان القومية ليست مثالية . والموقف القومي ليس موقفا مثاليا وابعد ما يكون عن الموقف القومي ذلك الموقف المثالي الذي يتوقع من الدول العربية الاقليمية اكثر مما حققت : تحرير فلسطين مثلا او تحدي ارادة الدول الكبرى مثلا آخر... او الا ستمرار في القتال بعد ان صدر اليها امر مجلس الامن مثلا ثالثا... الخ .
ثم يأتي الامر الثاني الذى نطرحه ونتمنى ان يحظى بالعناية من كل الجماهير العربية التي ما تزال تحتفظ بولائها لامتها العربية.
التسوية السلمية التي تتضمن الاعتراف بالوجود الاسرائيلي او بضمان امنها لن تتم . بالرغم من كل المحاولات التي يبذلها المجتمع الدولي عامة وكل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية خاصة وبالرغم من كل النوايا الخفية والمعلنة التي تسعى الى مثل تلك التسوية وبالرغم من كل الاغراءات والانتصارات التي تقدم، او تحققها ثورة الشعب العربي في فلسطين فان الاعتراف بالوجود الاسرائيلي أو ضمان امنها أو فتح المياه العربية لعملها.. الى اخر ما جاء في القرار 242 لن يتم . ان لهذا التأكيد اكثر من سبب وتتصل الاسباب بجميع الاطراف المعنية كما تتصل اساسا بقوى قادرة تماما على ان تحول دون تلك التسوية. وانه لمن مصلحة جميع الاطراف ان يكونوا على يقين من هذا.
الحرب الخامسة اذن قادمة.
قد تشنها اسرائيل تحاول ان تحقق فيها نصرا محدودا يعوض الاثار الداخلية المتردية التي سببتها هزيمتها المحدودة . وقد تشنها دول المواجهة العربية لكسر الجمود السياسي الذي تدفن فيه رويدا رويدا قضية ازالة اثار العدوان . في هذه الحرب المتوقعة ستلقي الدول العربية-  مرة أخرى-  بخلاصة الشباب من أمتنا العربية في أتون المعركة. وستستنزف- مرة أخرى- أغلب الطاقات الاقتصادية المتاحة لتحقيق نصر محدود جديد كل غايته أن يمنح من دماء عشرات الالوف من الشهداء، وعشرات الملايين من الجنيهات "حقنة" تقوية لبعض المتسابقين العرب في مضمار المناورات السياسية. كل غايته أن يغذي اوهام الامل في تحرير فلسطين على ايدي الدول العربية ويمد في حياتها حتى يحين حين الجولة السادسة.
لا.
اني أقولها لكل الذين رخص عندهم الانسان العربي الى الحد الذي يدفعون به الى الحروب لا من اجل النصر لأمته ولكن من اجل تقوية مراكزهم في المساومات الدبلوماسية.  لا.  ان حياة جماهيرنا العربية أغلى بكثير من أن نكون مجرد ورقة في لعبة المناورات السياسية . لا . يكفي الدول العربية ما بددت من طاقات وما أنفقت من أموال وما أهدرت من دماء بحجة أنها تريد تحرير فلسطين . لا . يكفي الدول العربية ما فرضت من قهر على جماهيرنا وما استنزفت من طاقاته وما أقتطعت من قوته بحجة أنها تشتبك في صراع مع الصهيونية من أجل تحرير فلسطين . لا . اننا لا نريد أن تحكم إسرائيل جماهيرنا العربية بطريقة غير مباشرة عن طريق "اعتذار" الدول العربية بالصراع ضد اسرائيل لتغطية ما ترتكبه في حق جماهيرنا العربية من جرائم.
ان من حق شعبنا العربي أن يوقف هذه اللعبة المدمرة والتي كان هو ضحيتها دائما. من حقه أن يحول بكل قوته دون أن تبقى إسرائيل أداة لاستنزاف طاقاته دورياً ، فكلما بنى هدمت ، وكلما نشأ له جيل جديد دخل به حرباً جديدة ، وكلما حاول أن يتقدم توقف ليقاتل معاركه المحدودة . من حق شعبنا العربي أن تكون الحرب الخامسة هي "الحرب الأخيرة" ليتفرغ بعدها لبناء الحياة التقدمية رخاء وحرية .
ان هذا يعني أن تكون غاية " الحرب الأخيرة " ليس مجرد تحريك للقضية على المستوى الدبلوماسي ، ولا إزالة آثار عدوان 1967 ، ولكن استرداد أرض فلسطين للشعب العربي . إذ من وجهة النظر القومية لا نفهم ما يقال له الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلا استرداد أرضه المغتصبة . وبمنتهى الوضوح لا  يتم هذا إلا بتصفية دولة اسرائيل ، أما ما يتلو هذا من قضايا فرعية مثل مصير البشر الذين جمعتهم الصهيونية على أرض فلسطين أو كيفية التعايش بين الأديان على الأرض العربية فكلها مشكلات ثانوية أو سهلة الحل وليس في التقاليد العربية ما يحول دون الوقوف منها موقفاً انسانياً وحضارياً . المهم أن تكون الغاية الثانية للحرب الخامسة تصفية " الدولةالمؤسسة " التي تجسد السلطة الدخيلة وتحرم الشعب العربي من دولته التي تجسد سيادته المشروعة على ارضه.
واضح ان اسلوب الدول العربية الذي مارسته منذ سنة 1948 وحقق اقصى عطائه في حرب اكتوبر 1973 لن يحقق تلك الغاية لأسباب موضوعية لا يجدي تجاهلها أو المزاودة عليها. اذن فان تغييراً حاسما وجذريا يجب أن يتحقق في الوطن العربي كشرط سابق للنصر في الحرب الخامسة. أول عناصر هذا التغيير واهمها أن تدخل الجماهيرالعربية ذاتها الحرب الخامسة.  ان تكون صاحبتها جندا وقيادة وان ترسم هي استراتيجيتها وتخوض هي مواقعها التكتيكية وتعبىء هي مواردها وتوظفها في سبيل أن تكون الحرب الخامسة التي هي حربها الاولى، حربها الاخيرة.
ليست هذه دعوة الى ما يسمى حرب التحرير الشعبية . ان حرب التحرير الشعبية مستحيلة على الارض العربية لسبب بسيط هو أن جيوش الدول العربية تحول ـ بالقوة ـ دون حرب التحرير الشعبية ولكنها دعوة الى قيام دولة واحدة جماهيرية تخوض الحرب الخامسة و الاخيرة.  دولة واحدة تضم اقاليم مصر وسورية والاردن وفلسطين . نعم فلسطين . ان هذا هو الاستثمار القومي التقدمي الامثل للاعتراف العالمي بان منظمة تحرير فلسطين هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.  انها الان تملك أن تدخل في وحدة فتصبح فلسطين المحتلة جزءأ من دولة عربية واحدة من حقها تحرير قطعة من ارضها . نقول ان مثل هذه الدولة كفيلة بتحقيق النصر النهائي الحاسم في الحرب الخامسة الاخيرة .  ان هذه الدولة لا تحل فقط مشكلات الموازين الدولية الضاغطة ومشكلات التسليح الاسرائيلي الكثيف ، بل ستحل ايضا مشكله " الناس " الذين سيتخلفون على الارض العربية بعد تصفية دولة اسرائيل ، ولن يكون حل مشكلاتهم حينئذ على حساب الشعب العربي الفلسطيني وحده .
ضد هذه الدعوة ستقدم الدول العربية وأجهزتها الاعلامية مئات الحجج من اول الحساسيات الشخصية الى ضرورة أن تسبق الوحدة دراسات متأنية لاثارها على التجارة والنقد ومناهج التعليم والنظم الاقتصادية... الخ . عندئذ تتبين الجماهير العربية حقيقة موازين الدول العربية.  ليس لدى الدول العربية مانع من أن تقاتل بأبناء أمتنا عشرين سنة في معارك محدودة النصر محدودة الهزيمة، وتستنزف طاقاته عاما بعد عام وتحكمه بحجة تحرير فلسطين . ولكن لديها موانع كثيرة من أن تفتح حدودها وتستغني عن مقاعد السلطة فيها وتقبل " هزة " في نظمها التجارية وسعر عملتها ولو من أجل النصر النهائي على الصهيونية.  ليس لدى حكام العرب مانع من أن يموت من كل جيل عربي عشرات الالوف من الشباب ، وان يسخر عائد الانتاج العربي في شراء الاسلحة، وان يجوع الشعب العربي ويقهر سياسيا واقتصاديا وفكريا من اجل تحرير فلسطين، ولكن لديهم ألف مانع من أن يفقدوا مراكزهم كحاكمين ولو كان ذلك هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين .
لا.
فلتقل الدول العربية ما تشاء فان دعوتنا ليست موجهة إليها . انها دعوة الى الجماهير العربية في أن تختار بين حروب محدودة متكررة كل عشر سنوات أو اقل أو بين حرب أخيرة تتفرغ بعدها لحياة الحرية والرخاء. ان تختار بين الوحدة وبين التجزئة بين القومية وبين الاقليمية.  وهي اذ تختار انما تختار بين النصر والهزيمة. فلتختر الجماهير العربية الوحدة ، طريق النصر، من أجل أن تكون الحرب الخامسة هي الحرب الاخيرة .
*****



20 يناير 1975