الثلاثاء، 22 مارس 2016

طارق البشرى والجامعة الوطنية لدى سيف الدولة


بسم الله الرحمن الرحيم

 الجامعة الوطنية والجامعة المدنية لدى الدكتور / عصمت سيف الدولة * 

                                                                  المستشار / طارق البشرى


( 1 )

   د/ عصمت سيف الدولة له دين لدينا كبير، لدى كل من عرفه ومن قرأ له . وظنى انه ما من وطنى ، عربي ناشط  بهذه الصفة إلا وفى رقبته للدكتور عصمت منه .

   هو فى كلمة مختصرة ، يمثل فى ظنى أهم استجابة فكرية مصرية ، وأقوى استجابة من أرض النيل ، لدعوة العروبة . وقد غذى هذه الفكرية بماء حياة جديرة أن تصدر من مصر . وأبرأ ذمة الفكر الناشئ فى مصر من دين عليه للجامعة العربية العامة . وقد كان قويا وسخيا وعطاء ، فأوفى الدين عن غيره من بنى قطره ، ممن يدينون بفكرة العروبة ويسعون إلي  تحقيق وحدتها السياسية .
   في إطار النقلة الكبرى التى انتقلت بها مصر لسياسة الوعى والإدراك  إلي العروبة ، كان عصمت سيف الدولة هو المفكر الذى قدمته مصر ليعكس هذه النقلة ، فقد كانت العروبة قضية حياته ـ يرحمه الله  ويجزل له العطاء  ـ وقد كان من سعة الاطلاع وعمق المعارف وسخاء العطاء الفكري مما جعله يضع بصمة خاصة جدا على هذا الفكر السياسي عليه ، مما جعل فكره جديرا بأن يبقى وأن يولد من المعاني ما يبقى نفعه .
   وعصمت جعل العروبة قضية حياته ، وعايشها بكل تضاريسها وعقدها ومشاكلها جميعا ، وما أكثر هذه العقد والمشاكل ، حتى أنه فى واحدة من كتاباته ، أوقف القلم ثم كتب " يا الهى ما أكثر المشاكل " . وهو آل على نفسه أن يخدم هذه القضية من أعم تكوين فلسفى مجرد لها ، حتى أخص تشكل عينى ملموس لحركتها .
   كان مستقل الفكر وقادر على الهضم والتمثل  ، وجمع بين الفلسفة بتحليقاتها المجردة  وبين التطبيق بحركته الواقعية . وكان يتكلم على طول ما بين هذين الحالين وعرضهما ، وكانت كتاباته النظرية المجردة ذات حس علمى  وتطبيقي دائما ،   كما أن تعليقاته التطبيقية، وتصدياته للواقع  كانت دائما ذات عمق نظرى وخلفية فلسفية .

   وجمع بين دراسة القانون وممارسة قضاياه وتطبيقاته وبين دراسة الفكر السياسى وممارسة حركتها وبين دراسة علوم الاجتماع وتجارب الأمم ، وأورثته الممارسة القانونية المدربة، الرؤية  التى تجعله دائما وهو يتعامل مع النظريات المختلفة ، لا تغيب عنه بتاتا  المضادات التطبيقية لأى من مفاهيمها فى السياق المرئي والملموس ، وهو أيضا يستخدم " النظر " لترجيح المضادات الملموسة . وكان فى سجاياه الشخصية اعتداد بالنفس وذا شموخ وأنفه .  ومع ضخامة هذه السجية ، فهى لم تكن تصل عنده أبدا الى " الكبر " ، لأنه كان دائما ما كان يستخدم اعتداده وشموخه وأنفته . فى الدفاع عن ضعيف مظلوم ذى حق ، والدفاع عن موقف سياسى واجتماعي يراه ويراه الناس معه موقفا نبيلا . وقد كان عاتيا ولكنه لم يكن يعتد  " إلا على من عتا  "كما يقول الشاعر المتنبى فى مديح نفسه .
    والصورة المقابلة لذلك ، أنه كان يذوب حنوا على من يصادقهم ويؤاخيهم ، وكذلك على الضعفاء . وأنا لم أعرف أحدا أراد أن يكتب مذكراته الشخصية عن آخر عمره ، وأصدر فيها كتابين صدر ثانيهما بعد انتقاله الى رحمة الله ، ولم أعرف أحدا  بكتب مذكراته فلا يشير الى نفسه ، إنما يكتب عن قريته وعن أبيه وعن أهل قريته ، بشعور غامر من المحبة والود ينسى فيه نفسه وذاته ، وقد قرأتها عقب وفاته ، وكنت استصحب الشعور بأنه حى يحكى وأنا أقرأ ه ، وكان يتجاذبنى الشعور بالشغف الى متابعة القراءة والشعور بالدهشة من الاقتراب الى نهاية الكتاب . لأنه كان عملا رائعا لشخصية يندر أن تعرف مثيلا لها ، ولعالم يفكر بنبل أغنى قومه ولا يزال يغنيهم .

( 2 )

  ينحدر عصمت سيف الدولة من شجرة  " الحزب الوطني " التى تضرب بجذورها فى أرض مصر . هذه الشجرة تبدأ باستقلال الوطن وتمتد الى كل ما يمكن أن يمتد إليه الفكر السياسي والاجتماعي ، على اختلاف المدارس والمناهج والمطالب والنظر الى التحديات وتفتيق أساليب  الاستجابة لها ، ولكن يبقى " الوطن " هو المسلمة الأولى وهو الحلقة الحاكمة لكل مطلب ولكل استجابة من بعد . من هذه الشجرة ظهرت جذوع أخرى ، إسلامية ووطنيه وعربية وديموقراطية واشتراكية ، ولكنها كلها تبدأ بالاستقلال الوطني  وتحكمه فى التأويل والتفسير والتطبيق .
   و د / عصمت  اختار فى حياته الفكرية السياسية الخصبة ، منذ الخمسينات ، اختار التوجه الى العروبة والى الاشتراكية ، ولكن عروبته كانت تبدأ بموقفه الوطني وتستوعب مصريته باعتزاز وتتعامل مع وحدات الانتماء الأعم مثل الجماعة الإسلامية وغيرها ، كما أن اشتراكيته كانت محاطة بالمجال الوطني العروبي الذى رآه حاكما ومسيطرا .
    ولذلك نلحظ أن أهم ما جهد الدكتور عصمت فى بذل جهده الثقافي الكبير فيه ، هو مواجهة الفكر الماركسي الذى كان ذا عزوة وقوة تماسك فلسفى اقتصادى واجتماعى ، تعززه ما بدا من انتصار التجارب الشيوعية فى عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وما بدا من دعم موازين الدولية الاشتراكية لحركات التحرر الوطني ولحكومات ونظم التحرر الوطني فى الخمسينات والستينات . وخلال هذه الفترة بدا الفكر السياسي الآخذ عن  المرجعية الإسلامية  بعيد عن منابر الحوار الاجتماعى السياسى المؤثر فى مجتمعنا . فكان الفكر القومي العربي يجتهد فى أن يقيم حائط صد  ضد التغلغل الفكري الماركسي فى بلادنا ، واختلفت الاتجاهات والاجتهادات ، وكان د / عصمت من أهم من تصدوا لهذا الأمر من الزاوية الفلسفية ، فوضع فكرة " جدل الإنسان " بديلا عن الجدل المادى أو جدل الطبيعة ، وأراد أن  تعمم  الفكرة الاشتراكية فى إطار وطني عروبى . وكانت جهوده فى هذا الشأن من أخطر وأهم الجهود .
وبهذه المناسبة فإني أذكر فى هذا السياق جهود الدكتور على مختار رحمه الله .

( 3 )

   الدكتور عصمت يصل الى أن التشكيل الأمثل للجماعة السياسية هو التشكيل القومي ، وهو ما أفضت إليه ضرورة الاشتراك بين البشر ، وعنصراه اللغة والأرض وهما ما يصنعان التاريخ وظهور الأمة بمسمياتها " مجتمعا ذا حضارة متميزة" .. ( المنطلقات ص 137 ) .. و د / عصمت باعتباره كما سبق وأن ذكرت رجلا " تطبيقيا " كان لابد أن يضيف الى ذلك " وحدة المصير القومي" (المنطلقات ص 138) .
   ثم هو بعقليته القانونية يربط بين هذا التكوين وبين مفاهيم السيادة بحسبانها استقلالا سياسيا والسلطة باعتبارها ممارسة للسيادة ، وما ينتج عن ذلك من " المشروعية " التى هى ضبط السلوك الفردى والجماعى مع قواعد النظام القانونى . وهنا نلحظ أن القومية قد صارت الجذر الأساسى الذى يراه عصمت للاستقلال والمشروعية .
   وهو يزيد إيضاح الرباط بين القومية وبين الاستقلال ، لأن أى انتقاص من السيادة على أى إقليم من الأقاليم المشمولة بالقومية يعتبر أن الشعب كله قد صار محروما من وطنيته ( المنطلقات ص 144ـ 145 ).
   ثم يزيد التعميم في هذا الشأن بأن أى محاولة لحل مشكلات اجتماعية للمجتمع القومي ، أى محاولات لحلها في غير إطار الدولة القومية ، هي محاولات مهدرة محكوم عليها بالفشل ، لأنها ببساطة عالجت مشكلة ليست هي مشكلات المجتمع الواحد ـ المجتمع القومى .
   في هذه النقطة ، ينظر الدكتور عصمت الى " القومية المكتملة " باعتبارها جسما واحدا ، فلا استقلال للجسم الواحد ما بقى جزء منه منقوص السيادة . وهو لا يرى أملا فى علاج أى مشكلة مادام ينظر اليها فى إطار جزئى أو إقليمي . وهو يربط بذلك ربطا عضويا بين تكوين الجماعة السياسية وبين أى من السياسات أو الأهداف أو المشاكل .

( 4 )

   ثم هو بعد ذلك ، أو مع ذلك ، ينظر إلي القومية المكتملة باعتبار ما أنتجت من " أمة ". ويرسم لها إطار علاقاتها مع ما بخارجها و ما بداخلها وحسب مصيرها . وعلاقات الخارج فيما يراها ، هي مع الإنسانية ومع الإسلام ومع الأممية . وعلاقاتها الإنسانية مبرأة من العدوان بحسبانه صفة لصيقة بالقومية ، لأن القومية كما يستحدمها الاستعمار ذريعة للعدوان تستخدمها حركات التحرر وعاء للمقاومة ، و لأن القومية شئ والنظام الذى تتخذه شئ آخر .
   ثم أطنب بعد ذلك فى شأن علاقة القومية بالإسلام ، وفى هذا الشأن هو يرى أن العلاقة هنا هي علاقة " بالخارج " آي بمجتمعات أخرى خارج المجتمع القومي ولكنها ليست علاقة بدائل . ثم يضيف أن ثمة علاقة تاريخية خاصة بين الأمة العربية والإسلام بما ليس له مثيل فى تاريخ الأديان لتاريخ الأمم . وهو يرى أن الإسلام عقيدة أشمل من أن تنحصر فى جماعة سياسية ، ومن ثم لا تقف على مستوى واحد مع القومية مما يجعلهما بديلين . كما أن الإسلام لم يكن فى رأيه دينا فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . وقد أدرك أمما مكتملة القومية وانما لم تكتمل قوميتها بعد .  ثم يشير إلي  أن  الإسلام  أسهم فى تكوين  الأمة العربية ، وثمة أمم أخرى إسلامية منها الفارسية والتركية ، ثم يذكر النتيجة التى يريد أن يصل إليها وهى أنه " لا يمكن الاحتجاج بالإسلام لإنكار الوجود القومي العربي أو الاستناد إليه فى موقف مضاد للقومية العربية " ( المنطلقات ص 158 ) . 
   وأنا أجد خلافات لدى عن د/ عصمت فى صياغة هذه العلاقة ، ولست هنا فى معرض ذكر آرائي التي يمكن الرجوع إليها فى نطاق وجودها، إنما اعرض ملامح تفكير د/ عصمت ، وأرى بشأنها أن المجال المشترك بين وجهتي النظر كبير و معتبر . فالإسلام ساهم فى اكتمال القومية العربية ، وثمة علاقة خاصة بينهما وهما ليسا بديلين . قد يكون الأستاذ الجليل يثبت الانتماء القومي ، وأنا أراه من الناحية التاريخية حركيا ينمو ويكتمل وينقص أيضا . وهذا ما يلقى علينا مسئولية  مضاعفة . كما أنى أرى أن ثمة تكاثر فى دوائر الانتماء والجهد البشرى وظروف التاريخ والمراحل وهو ما يحكم احداها فى غيرها ، وأن العلاقة بين العروبة والإسلام علاقة أظنها علاقة خصوص العروبة بعموم الإسلام من الناحية  السياسية ، بحسبانه ثمة جماعة سياسية خاصة وثمة جماعة سياسية أعم . والتنظيم هو ما ينسق بينها .. الخ .
   ثم يرد  حديثه عن علاقة القومية بالأممية والتى تقوم فى الفكر الماركسي على وجود الطبقة العاملة فى العالم ، وهو ينظر فى هذا الأمر باعتبارات السياسات المتحدة ضد قوى البطش الإمبريالي فى العالم فيجد تعاونا ، ثم ينظر إلى الفواصل القومية بين الطبقات العاملة على أسس مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي فيجدها كثيرة جدا ويلحظ أن مستوى بعض الطبقات العاملة هو على حساب طبقات عاملة أخرى .. وهكذا ..
   ثم يعرج الأستاذ إلي علاقة القومية بجماعات " الداخل " سواء الطبقة أو الإقليم أو المؤسسات الإقليمية أو الأقليات القومية . وهو فى ذلك يرى حتمية التقدم ، بحسبان أن التحرر هو تقدم ضد الاستعمار ، وأن الديموقراطية هى تقدم ضد الاستبداد وأن الوحدة هى تقدم ضد التجزئة ، ثم أن الاشتراكية هى تقدم ضد الرأسمالية بوصف الرأسمالية طبقة رجعية ، وهو فى صياغاته الفكرية لا يركن الى الفكرة الماركسية الخاصة بالصراع الطبقي ، ويستبدل بها مفهوم الصراع الاجتماعي الذى يجعل المصير القومى هو المصير الحاكم الذى يشمل كل القوى" الحل الصحيح لمشكلاتها الاجتماعية " ( المنطلقات ص 181 ) بحسبان أن حل المشكل القومى يتضمن حلا للمشاكل الطبقية .
   أما الإقليمية فهي  فيما يرى نقيض القومية المكتملة ، وسواء كان أصحابها شعوبيين أو قبليين أو استعماريين أو رأسماليين أو بعض من الاشتراكيين ، وان الاستعمار هو من خطط حدود الأقاليم واعتبرها دولا . ثم هو يعتبر مؤسسة الدولة التى قامت على أساس إقليمي ومؤسسة الحزب التى تقوم على أساس إقليمي هي تجسيد سياسى للتجزئة ، والدولة الإقليمية هى التجسيد الكامل للتجزئة حتى إن كانت متحررة من السيطرة الاستعمارية ، فهى رجعية فاشلة بغير استثناء القومى منها ، وحتى إن قام بعضها تحت قيادة قومية . فان كان دولة فهو إقليمي ، وان كان حزبا فسعيه أن يعتلى دول إقليمية . ولابد أن يكون التنظيم القومى تنظيما قوميا فى تشكيله ( ص 203 ) .
   ويبقى بعد ذلك الأقليات القومية التى تكون مشمولة بالوفاء القومى المكتمل . وهنا يورد د/ عصمت بمنهجه القانونى والرأي الذى يختار القاعدة القانونية ثم يخضع لها بالتزام صارم .  فيذكر أن أى قسم يكون ذا قومية خاصة مكتملة يتعين أن يخلى بينه وبين قوميته وانفصاله وبناء دولته ، باعتبار ذلك موقفا عقيديا ثابتا . وهذا القسم موقفه موقف تحررى عندما يطلب حريته ، والقومية يتعين أن تلتزم حدود الوطن القومى . ولكن لا يصح قبول مزاعم أى جماعة تدعى أنها" أقلية قومية " طبقا لنظر خاطئ أو معيار ملتبس ، على ما تثير الدول الكبرى  فئات  من العروبة  ، سواء باعتبار الإقليم أو اللون أو العرق أو اللهجة مما تعتبر إعراضا .
 ونحن نفهم من خلاصة فكر د/ عصمت نقطة أساسية وهى حسمه فى رغبته نزع فتيل التنافي بين العروبة والإسلام من وجهة النظر القومية .
*****  


* محاضرة المستشار/ طارق البشرى فى الذكرى االعاشرة لرحيل الدكتور عصمت سيف الدولة فى 31 مارس 2006


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق