الخميس، 21 يوليو 2016

ثلاث نقاط على حروف الثورة .. النقطة الأولى

ثلاث نقاط على حروف الثورة
النقطــة … الأولى
( 1946 )

الدكتور / عصمت سيف الدولة
 
 باسم المالكين أبناء المعدمين ، باسم العاملين أبناء العاطلين ، باسم العمال أبناء الفلاحين ، باسم الطلبة أبناء الأميين ، باسم الأصحاء أبناء المرضى ، باسم الأحرار أبناء المستبعدين ، باسم الأعزاء أبناء المستضعفين ، باسم سكان القرى تنيرها الكهرباء أبناء الذين عاشوا وماتوا فى الظلام ، باسم الذين لم يذوقوا قطرة ماء عكر أبناء الذين كانوا يشربون الماء بالطين ، باسم المصانع ، باسم المزراع ، باسم المدارس ، باسم الجامعات ، باسم الوحدات الصحية ، باسم الأدوية المجانية ، باسم التخطيط ، باسم الاشتراكية …
نحيى الذكرى الخامسة والعشرين لثورة 23 يوليو ..

***

النقطة الأولى .. 1946

… بعد سبع ساعات طويلة وقف القطار ، من المحطة الى شركة حافلات "الخواجة مقار " . مقار لم يكن أجنبيا ، مقار كان " قونصلاتو " ، كان أعيان الريف يلتحقون بخدمة الدول الأجنبية ليحتموا بالامتيازات . كان الأجانب لا يخضعون للقانون المصرى فى مصر . " القونصلاتو" مقار صاحب إمتياز المياه والنور والمواصلات فى محافظة أسيوط . من شركة مقار تتسكع "الحلزونة" ( الباص ) على قنطرة أسيوط متجهة إلي شرقى النيل ، نترك وراءنا كل ما يمت الى القرن التاسع عشر بصلة حضارية . أسيوط البندر لا تزال فى القرن التاسع عشر . أوائله . فى الشرق الأمر يختلف . لا سكة حديد ، لا طرقات ، لا مياه ، لا إنارة . لاشئ أضيف منذ حكم المماليك . ليس الأمر سيئا الى هذا الحد . الطرق معبدة . أسلاك الكهرباء ممتدة فوق القرى حتى قرية " الساحل " . أربعون كيلو مترا جنوب شرق أسيوط . حدائق وقصور وكهرباء ومياه ومدرسة ثانوية . الساحل قرية عائلة محمد باشا . محمد باشا رئيس حزب وكان أبوه مرشحا للملك أثناء الحرب الكبرى الأولى . رشحه الإنجليز لضمان توريد المصريين لخدمة جيوش المحتلين . ابتداء من الساحل تغيب المدنية . " الحلزونة " ومن فيها غارقون فى سحابة التراب التى تثيرها . تلائم الحافلة العتيقة بين حركتها وحفر الطريق فتكاد تتمزق أوصالها . أنفاس الناس المكدودين حامية . جدار الحافلة ملتهب . التراب الساخن يهرى الصدور . شمس تموز المحرقة تمد كل شئ بقبس من لهيبها . الناس لا يتكلمون . يكحون فقط . وإمرأة تقئ وطفلتها تبكى . تقئ المرأة داخل حجابها . النساء محجبات فى صعيد مصر . يتجمع الناس فى جانب من الحافلة فتميل ويلعنهم السائق . يولون المرأة ظهورهم ويفسحون لها حتى تقئ خارج حجابها . من جوفها الى جوف الحافلة . لا تزال الشهامة فضيلة فى الصعيد . ولكن رائحة الهواء الساخن المترب أصبحت نتنة .

   الأفندى القادم من القاهرة تحت كومة من البشر . رائحة عرقهم نفاذة . يكاد يقئ . عيب . هل يقئ هو وإمرأة فى وقت واحد ؟ وماذا يقول الناس حين ينتشر الخبر ؟ لم تفلح سنوات الدراسة فى الجامعة . لا يزال يعيش قيمه القبلية . "الحلزونة " الركيكة ، الخليعة  تتأرجح على الطريق وتشق غبارها بصعوبة لمدة خمس ساعات ، ثم تكح وتبطئ . وترتعش حتى تقف . قطعت ستين كيلو مترا . هنا المركز . هنا السلطة . الدولة . هنا القضاة الذين يحكمون . ورجال النيابة الذين يحققون الجرائم . ورجال الشرطة الذين يطاردون المجرمين . والمدرسة الابتدائية بتلاميذها الأربعين . وليس فى المركز كهرباء ولا ماء ولا مطاعم ولافنادق ولاطرق مأمونة .

   هنا منفى الموظفين . كل شئ توقف عند " الساحل " لأن الساحل قرية بيت السيادة . لماذا ـ إذن ـ لا ينقل المركز الى القرية ؟ لأن السادة لا يريدون أن تجاور سيادتهم فى قريتهم سيادة القانون . لهم قوانينهم وقضاتهم وسجونهم الخاصة .

   من المركز جنوبا على ظهر حمار . منذ أن كان الأفندى طفلا كان يتصايح مع أترابه ويسابق كل أهل قريته . كل أهل القرية حتى المحجبات من النساء كانوا يتسابقون الى الطريق ينتظرون سحابة من التراب الكثيف بانت فيما يلى شجر السنط  من ناحية الشمال . الرجال يعجبون ويصطنعون الوقار . النساء يتهامسن ويصطنعن الحياء . والأطفال يصخبون ويعبرون عن دهشتهم بكلمات منكرة . وعندما تمر سحابة التراب يزفها الجميع مصفقين . ويرددون " الكمبيل أهه .. الكمبيل أهه " . منذ أن كان طفلا كان مرور سيارة فى ردائها الترابى الكثيف عرسا تزفه القرية على قارعة الطريق يقولون أن الزفة كانت تتكرر كل عام أو كل نصف عام . مايزال الحمار مطية للذين يملكون الحمير على أى حال .

   الحمار ثقيل والتراب ثقيل والحر ثقيل . وكل شئ باهت فى وهج الشمس . هو على ظهر الحمار وبضعة من أبناء عمومته يحيطون به مرحبين به كثيرا فدون الكثير فقليلا ثم يسكتون . بعد عشرة كيلو مترات انقطعت الأصوات إذ انقطعت الأنفاس وأصبح الموكب جنائزيا حقا .
   فى الجنائز يحدث الناس أنفسهم أحاديث حلوة . وراء قناع التجهم الجنائزى تعربد ذكريات مرحة . كم مرة قطع هذا الطريق ذهابا وعودة من المدرسة الابتدائية . مئات المرات . ربما آلاف المرات . على ظهر ذات الحمار ؟ لا. على ظهر أم الحمار ذاته . فى الفجر من صباح كل يوم تحمله الى مدرسته . وتعود فتحمله الى قريته . فى أيام الشتاء " يصرونه" فى قطعة من القماش السميك خشية البرد . ويضعونه على ظهرها كما توضع زكائب الخضر المرسلة الى سوق المركز . ووراءه على ظهر ذات الحمارة إبن عمه الكبير يضمه إليه حتى لا يتدحرج من فوقها . نام إبن عمه مرة فتدحرج فى شرنقته السميكة الى أن أدركوه قبل أن يغوص الى قاع الترعة .  

   هذه هى القرية . حمدا لله على سلامتك …. الله يسلمكم . 

   قال له عمه ألف مرة أسبابا ، لم يعد يذكرها ، كانت قد الجأت جده القديم الى هذا المكان من وادى النيل . على إمتداد النيل العتيد اختار جده تلك البقعة التى يجرى فيها النيل تحت سفح الجبل الشرقى . البقعة التى لا وادى فيها إلا أشهر معدودات من كل عام . تسخر القرى الأخرى من أن جده القديم كان يحب أن يجلس على حجر ويدلدل قدميه الحافيتين فى الماء . كان لا يحب الطين . تكاثر النسل فنثروا منازلهم على سفح الجبل . أين هذا من لبنان . صخور الجبل الشرقي جرداء إلا من الأفاعي والعقارب والبشر . وأسراب الخفاش التى تسكن الكهوف . ولكل شئ وجهه الآخر . يحاصر النيل القرية ثلاثة أشهر ابان الفيضان. وتصبح القرية مستقلة حقا . حتى الصراف لا يستطيع أن يصل إليها ليجبى الضرائب . حتى رجال الشرطة لا يستطيعون الوصول إليها ليقبضوا على المجرمين . أما البريد ، أما الأطباء ، أما المعلمون ، أما الصحف ، فلا تأتى إليها فى أشهر الفيضان . لا، ولا فى غير أشهر الفيضان . تلك من عناصر الحياة التى لا تغادر المركز جنوبا فى أى حال . الفرصة إذن مناسبة . حفلات الطهور وحفلات الزواج كلها فى أشهر الفيضان . ما دامت أقدام جباة الضرائب والشرطة قد انقطعت فليفرح الناس . وتنقضى الأشهر الثلاثة فى عرس متصل . وأصبح ذلك تقليدا لم ينقطع إلا فى صيف 1967 . كان ذلك تعبير الفلاحين الصامت عن مرارة الهزيمة .
   تلك قفزة طويلة …

   نحن فى صيف 1946 . القرية محاصرة بالمياه . حمل " الأفندى " على طوف من البوص الى منزل أهله ، وشارك فى أعراس العام . ورأى نفسه مرة أخرى فى مئات الأطفال العرايا الذين يعبثون ويتعابثون فى لجة المياه العكرة ويصطادون صغار الضفادع . لم يغرق إلا واحد . عندما كان طفلا صغيرا كان يغرق الكثيرون . ويموت الكثيرون من لدغات العقارب . يدفن الأطفال فى السفح ولا تنقطع الأفراح . لا يحزن الناس فى الصعيد على من يموت قبل السن المفيد . قبل أن يرعى الماعز أو يحمل الفأس أو يسرق من القرى المجاورة أو يجيد إطلاق الرصاص .

   " الأفندى " فى هذا العام رجل من رجال القانون . أضيف الى تقاليد القرية تقليد التحكيم؛ ما بين عرس وعرس تكاد تقوم أسباب جنازة . كل الخصوم يطرحون على " إبنهم " ما يختلفون فيه ، انه إبن الطرفين" الخصمين" وعليه أن يكون عادلا . كل أب يرى عدالة ابنه فى طاعته . عليه أن يقضى لصالح الطرفين ، الخصمين . مستحيل . وتكاد تنقسم القرية على مدة صحة نسبته إليها . لو كان يملك مائة جنيه  لا أكثر لأثبت لهم أنه إبن مطيع لكل منهم . وفيم يتخاصم الجوعى العرايا الذين اختار جدهم تلك البقعة الجرداء حيث يتصل الماء بالجبل ؟ ثمار موسم زراعة الشتاء . ولا يختصمون جميعا فيما يزيد عن مائة جنيه . وهم فى هذا يقتتلون حتى الموت فى كثير من الأوقات . يقتل فى القرية رجل من أجل جحشه الذى قضم بصلة . ويموت قاتله ثأرا . إنهم يتعاملون مع الحياة على أساس قيمتها الحقيقية . وقيمة الحياة فى القرية لا تساوى جحشا أو بصلة . قبل أربعة أعوام كان هنا ورأى أهله يتساقطون موتى فى أماكنهم ويحملونهم بالعشرات الى سفح الجبل . بلا جنائز . كثر الموتى فاستهلكت جنائز الأولين منهما فى البيوت من بن وخبز وجبن فأصبح الحزن حقيقة . أصبح حزنا صامتا بدون طقوس . أصبح حزنا على الموتى وعلى الأحياء ، وتساوت المقبرة والبيت الفارغ مما يملأ البطون . كان ذلك عام الملاريا . المرض الذى يعالج بالشبع . امتد الى قرية الجوعى فرأى أهله يحملون الى المقابر بالعشرات . ولم ير أبدا ، أبدا ، أبدا ، طبيبا أو ممرضا أو حتى دواء . حتى " مأذون " القرية المكلف بقيد المتوفين مات فلم يكتب أحد أسماء الذين ماتوا . فلما أفتى أهله أن كلوا أى شئ تجدونه ذلك هو الدواء لم يأكلوا أبقارهم ولا أغنامهم ولا دجاجهم . وهل يأكل الناس أنفسهم . فى غيبة الأرض يستوى الإنسان والماشية غلاء فى سوق النفوس . فانطلق الشباب يصيدون الثعالب من شعاب الجبل . وأكل بعضهم ثعلبا مشويا ثم حمد الله على أن " الضرورات تبيح المحظورات ".
***
   الهمامية . تلك القرية .. منحها السد العالي واديها . ألجم النيل وحكم طوفانه فانحسرعن الأرض من أجل البشر .
   فنزل أهل القرية من شعاب الجبل يزرعون الأرض الخصيبة ويبعثون بأولادهم الى المدارس الثانوية لأن فى الهمامية مدرسة ابتدائية ومساكن للمعلمين والمعلمات . وشباب الهمامية يلعبون النرد فى ناديهم الرياضى وهم يتابعون برامج التليفزيون بعد أن ترك كل واحد منهم مذياعه (الترانزستور) فى منزله . فى الموقع الذى سبق أن وقف فيه الركب الجنائزى عام 1946 مستشفى صغير(وحدة صحية) فيها طبيب مقيم وصيدلية تمنح العلاج والدواء بدون مقابل . بجوارها صرح من الأسمنت المسلح يحمل على رأسه مخزنا من المياه النقية ليشر أهل القرية ماء بعد أن كانوا يشربون طينا . أما فى مدخل القرية فمجمع استهلاكى يمد أهلها بما يريدون من بضائع فلم يعد أحد يذهب الى السوق على ظهر حمار . أما المقهى المجاور فلينتظر فيه أولئك الذين يريدون أن يركبوا "الباصات " الى المركز أو الى مشاهد السينما فى مدينة أسيوط ثم يعودون . وفى منزلنا القديم تتكدس المخصبات والبذور المنتقاة توزعها " الجمعية الزراعية التعاونية " على أهل القرية الذين أصبحوا زارعين . فى القرية مكتب للبريد . وفى القرية هاتف " تليفون " غير هاتف العمدة . وفى القرية مئات من الفتيان والفتيات الذين يغادرونها فجر كل يوم بسيارات تنتظر الى حيث يعملون أو يتعلمون .
كل شئ قد تغير وانتقلت قريتى من عهد المماليك الى القرن العشرين .
*****

القاهرة عام 1977


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق