الأحد، 3 يوليو 2016

حتى لا يقع الفأس فى الرأس

كتب هذا المقال ردا على دعوات احتكار الجيش لمنصب رئيس الجمهورية

حتى  لا يقع الفأس فى الرأس

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

النذير:
فى يوم 19 نوفمبر 1985 نشرت جريدة " الشعب" التى يصدرها حزب العمل الاشتراكى خبرا يقول:" يتردد فى الاوساط السياسية ان الرئيس مبارك سيصدر قريبا قرارا بتعيين المشير ابو غزالة نائبا لرئيس الجمهورية … تردد ذلك بقوة فى الاونة الاخيرة ، كما انه معروف بان هناك جهات كثيرة كانت تتعجل الرئيس مبارك  لاصدار قرار بتعيين نائب له ضمانا للاستقرار السياسى واكد الرئيس اقتناعه بأهمية ذلك ، بعد الاطمئنان الى اختيار الشخص المناسب فى الوقت الملائم ".
  لست مقتنعا بأن الرئيس مبارك يتجه الى تعيين المشير ابو غزالة نائبا لرئيس الجمهورية ، ولدى اسباب مقنعة بأن لو عرض المنصب على المشير ابو غزالة لاعتذر عن  عدم قبوله ، ذلك لاننى اعتقد ان الرئيس والمشير كليهما اكثر ذكاء واكثر حرصا على مستقبل مصر من ان يعرضاها لمخاطر جسيمة ممتدة فيما لو تم ذلك .  ولان المسالة فى نظرى اخطر بكثير مما يتصور كثيرون ، بل هى اخطر من كل المخاطر الخارجية والداخلية المحيطة بمصر . فانى انتهز فرصة نشر هذا الخبر  لاعرض على كل من يهمه الامر.. وعلى الراى العام اولا واخيرا  الحقيقة الدستورية والواقعية والسياسية لمسألة " نائب رئيس الجمهورية  ، والمخاطر الجسيمة التى ينذر بها الاتجاه الى اختيار قائد القوات المسلحة ، او أى قائد عسكرى ، ليكون نائبا لرئيس الجمهورية .
***
.........................................................
.........................................................
***
المخاطر:
    لهذا الخطر وجهان . احدهما عام والاخر خاص . اما الخطر العام فهو ان تتحول رئاسة الجمهورية الى شبه وراثية كما كان العهد بدولة الامويين حيث يأخذ كل خليفة البيعة ، بالرضا او بغيره لمن يريد ان يخلفه سواء من ولده او من اخوته او من غيرهم .والتاريخ يتحدث بدون استثناء عن ان هذا الاسلوب قد حول الخلافة ( الجمهورية ) الى ملك ( ملكية ) عن طريق التوريث وليس الوراثة بالضرورة .ولست اعتقد ان احدا فى مصر يريد العودة الى الملكية صراحة أو ضمنا ، دستوريا او واقعيا .
    اما الخطر الخاص فهو ان يلى الرئاسة بعد الرئيس حسنى مبارك بالذات قائد بالقوات المسلحة  او احد قادتها العاملين . ادراك هذا الخطر هو من بين الاسباب التى يقوم عليها اعتقادنا بان اتجاه الرئيس حسنى مبارك الى تعيين المشير ابو غزالة نائبا لرئاسة الجمهورية غير متوقع من الرئيس وغير مقبول من المشير . ذلك لانه منذ عام 1952 تولى رئاسة الدولة اربعة من العسكريين العاملين فى القوات المسلحة . الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبد الناصر والرئيس انور السادات ـ بصرف النظر هنا عن ردته عن الثورة ـ والرئيس حسنى مبارك ، وذلك على مدى ثلاثين عاما متصلة .. وقد تولاها كل منهم لاسباب تاريخية خاصة به وليس لانه قائد عسكرى . اما الرؤساء الثلاثة الاول، فقد كانوا من بين قادة ثورة 23 يوليو التى قادها تنظيم الضباط الاحرار . والواقع التاريخى انه لم يثوروا لانهم ضباط ، او بصفتهم ضباطا ، بل بالعكس ، لقد ثاروا على صفاتهم كضباط لدى " جلالة الملك " واسقطوا ولاءهم العسكرى من اجل ولائهم السياسى للشعب . لقد كانوا ساسة عاملين منظمين مناضلين منذ عالم 1942 ولم تكن القوات المسلحة الا ميدانا لنشاطهم السياسى وقادة الثورة ايا كانت مواقعهم قبل نجاحها يتولون عادة سلطة الحكم ليضعوا المبادئ  التى ثاروا من اجلها موضع التنفيذ او ليضمنوا وضعها موضع التنفيذ .. ولقد اتجه جمال عبد  الناصر بالذات  منذ بداية توليه الى اعادة القوات المسلحة الى وظيفتها الدفاعية باسلوب لايزال محل تعليق حول ما اذا كان هو الاسلوب المناسب الوحيد ، اعنى ابعاد السياسين من الضباط الى مواقع مدنية فى وزارة الخارجية ( وهو انفاء الى الخارج)  او الى المؤسسات الحكومية، حتى لاتتكرر تجربة كانت لها ظروفها التاريخية غير القابلة للتكرار . اما الرئيس حسنى مبارك  فبالاضافة الى انه كان قد ترك موقعه القيادى فى القوات المسلحة ، الى منصب مدنى هو نائب رئيس الجمهورية ، فان اختياره للنيابة او للرئاسة كان جريا على تقاليد عالمية اخذت بها دول لاتسمح تقاليدها حتى ان يتولى عسكرى وزارة الدفاع. مقتضى هذه التقاليد ان تكرم القوات المسلحة المنتصرة باختيار احد قادتها المبرزين لتولى رئاسة الدولة لفترة تعبيرا عن شكر الشعب وعرفانه بتضحيات جنده وضباطه الابطال هكذا اختارت فرنسا دى جول رئيسا ، وهكذا اختارت الولايات المتحدة الامريكية ايزنهاور رئيسا ، بعد انتصار الدولتين تحت قيادة الرجلين العسكريين فى الحرب العالمية الثانية … وهكذا كان اختيار الرئيس حسنى مبارك نائبا ثم رئيسا تكريما للقوات المسلحة المصرية وبطولا تها فى حرب 1973 .
    هذه  الظروف التاريخية الخاصة غائبة عن الوعى العام وان كان كثيرون يعر فونها ويذكرونها ، انما الشائع فى الوعى العام خاصة لدى الجيل الجديد من مواليد مابعد 1952 او قبيلها ان مصر يحكمها " العسكريين ".. وهم يتوقعون ان يكون نائب رئيس الجمهورية عسكريا ، ليكون خليفة حسنى مبارك فى الرئاسة عسكريا .. لست اعرف مايثيره هذا التوقع من مشاعر لدى الكافة. ولكن  اخشى ما اخشاه ان يسلموا  به ،  فان مصر حينئذ ستتحول الى مثل جمهوريات امريكا اللاتينية وتعانى فى المستقبل القريب او البعيد ماعانته .  وتلغى الغاءً واقعيا ارادة الشعب فى اختيار حكامه ، ويصبح الاستفتاء تغطية شكلية ، وتبقى الديموقراطية غائبة حتى عن امل الشعب فى المستقبل .  واليوم معنا حسنى مبارك وابو غزالة وغدا وبعد غد لا ندرى من يكون . انما الذى ندريه انه اذ يستقر فى الوعى العام ان الكلية الحربية هى باب اول الطريق الى رئاسة الدولة ، لن يكون الراغبين فى الانتساب اليها مقصورين على ضباطنا الذين عرفناهم وطنية وبطولة وانكار ذات واستشهاد بل ستزاحمهم فيها قلة من المغامرين .
   لابد اذن ، وفى هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا ، من الحيلولة بأى ثمن دون ان تتحول السوابق ذات الظروف التاريخية الخاصة الى تقليد عام . يحتكر فيه العسكريين ، او غير عسكريين من الفئات المتميزة بوظائفها او مؤهلاتها ، رئاسة الدولة والحكم . ان هذا الاحتكار استبعاد للشعب صاحب الحق فى ان يختار من يشاء لتولى وظائفه العامة ومن بينها وظائف الحكم والرئاسة .
    ان هذا يعنى تماما ان ليس مرجع الخطر اختيار احد العسكريين للرئاسة . انما مرجعه ان ياتى هذا الاختيار بعد اربعة رؤساء من العسكريين فيتحول الى تقليد دستورى  بدلا من احكام الدستور . والواقع انه فى مصر ، وفى غير مصر من دول الارض، لايشترط فيمن يتولى رئاسة لدولة او الحكم مؤهل خاص . بل لعل الكثيرين لايعرفون انه لايشترط فيهم حتى القراءة والكتابة . يعرفون هذا الذين مايزالون يذكرون الحوار الدستورى الذى ثار حينما اختارت وزارة الوفد الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف . ولهذا حكمة مصدرها خبرة الشعوب . ان الدولة ليست جيشا لتحتاج الى خبرة قادة الجيوش . وليست مؤسسة  بناء او صناعة او مقاولات لتحتاج الى خبرة المهندسين . وليست محكمة الى خبرة قانونيين . وليست مؤسسة استيراد وتصدير لتحتاج الى خبرة سماسرة . الدولة مؤسسة شعبية فهى فى حاجة الى خبرة التعايش مع الشعب واحترامه وكيفية التعامل معه والولاء لصالحه ، أى انها فى حاجة الى خبرة " سياسية " والسياسة هى ادارة الدولة ، وليست اية مهنة او صنعة اخرى . وبالتالى فان احتكار اية فئة او طائفة للحكم بحكم انها تجيد القتال او تجيد البناء او تجيد الصناعة او تجيد التجارة او متخصصة اكاديميا فى الطب او الاجتماع او القانون ، هو استيلاء على الدولة دون الشعب صاحبها . فلابد اذا ما جاءت الظروف بنمط من التكرار من الانتباه الى خطر أن يتحول التكرار الى احتكار ، واذا كانت الدولة قد انتهت حفاظا على المستقبل وليس شكا فى استقامة احد ، ان تحرم على شاغلى  بعض الوظائف  العامة ، ان يمارسوا بعد تركها عملا يتاصل بما كانوا قائمين على ادائه الا  بعد سنين ، فاولى  ان يحرم على شاغلى الوظائف السيادية ، ان يرشحوا انفسهم ، لرئاسة الدولة  الا بعد سنين من ترك وظائفهم ، فان لم تكن ثمة وسيلة  دستورية او قانونية لمنعهم فاولى بهم ان يمتنعوا فبذلك يردون عن مستقبل مصر مخاطر لايعلم مداها الا الله ..
القاهرة فى 23 نوفمبر 1985

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق