ان القرآن قد أنهى الاستبداد بأن كان دستورا مكتوبا ملزما للناس كافة حاكمين ومحكومين وهذا هو ما يعنيه على وجه الدقة التعبير الحديث "المساواة أمام القانون" أو "سيادة القانون" وهو ما لم تعرفه البشرية قبل القرآن:
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (النساء 105)
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه (المائدة: 48)
((وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ
ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ)) ـ (المائدة: 49)
((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ـ (المائدة: 45)
((ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) ـ (الممتحنة: 10)
في هذه الآيات البينات أحكام عدة منها أن محمد بن عبد الله، الصادق، الأمين،
النبي، الرسول، القائد... مأمور، مثله مثل غيره من عامة المسلمين، بالتزام الدستور
القرآني. ليس مباحا لأحد، ولو كان الرسول نفسه، أن يستعلي أو يستثنى أو يخرج عن
القواعد العامة التي تحكم العلاقات بين الناس كافة.
***
انتهى الاستبداد المتخلف فلم يعد لأحد الحكم والحكمة لأنه رب أسرة أو عشيرة أو قبيلة أو كاهن أو ملك
متأله. وبعد القرآن انقطع الوحي فغلقت أبواب الاستبداد أمام الذين يزعمون لأنفسهم
مقدرة خاصة على استلهام القرارات لا أحد يدري كيف ومن أين. وإن زعموا فهو كفر
صريح.
بعد أن جرد القرآن الحاكمين من المقدرة على الاستبداد بالتشريع وألزمهم
أحكامه المقدرّة وساوى بينهم وبين المحكومين في الواقع لقواعد عامة مكتوبة منشورة
ومعروفة سلفا، على الوجه الذي انتهت اليه البشرية أو كادت، تجاوز ما انتهت اليه
البشرية بأن أمر المسلمين بحراسة دستورهم والدفاع
عنه ضد استبداد الحاكمين ولو بالقوة.
وكان ذلك على درجات:
فأولا حملهم مسئولية ما يصيبهم من استبداد وحرم عليهم التواكل ورجاء الانقاذ عن غير أنفسهم:
((لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ)) ـ (الرعد: 11)
((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) ـ (هود: 117)
ثم أمرهم بالتصدي ايجابيا للاستبداد والمستبدين:
((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) ـ (آل عمران : 104).
وحرم عليهم قبول الظلم والاستبداد أو الصبر عليه وأنذر الذين يقبلون الظلم بمثل جزاء الظالمين فحرض المظلومين
آمرا بالمقاومة:
((انَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ
تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) ـ (النساء: 97)
وضرب لهم أمثلة من المقاومة المباحة. أبسطها مواجهة المستبدين بالاحتجاج والنقد الذي قد يصل إلى درجة القذف أو
السب، ليس سرا من وراء ظهر المستبد وخفية عن عيونه، فتلك غيبة جبانة حرمها القرآن،
ولكن جهرا وعلنا في مواجهته:
((لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن
ظُلِمَ ۚ )) ـ (النساء: 148).
اللافت في الآية أنها لا تكتفي باباحة نقد الحكام المستبدين نقدا علنيا ولو
بالقول السيئ بل تقول ان الله يحب أن يفعل المظلومون هذا.
وتترقى درجات المقاومة المأمور بها في القرآن أي المشروعة طبقا للدستور القرآني، الى أن تصل الى حد
القتال ضد المستبدين دفعا لظلمهم سواء كان الظلم واقعا على النفس أو على الغير.
والقتال دفعا للاستبداد الواقع على الغير أولى بالانتباه إذ أنه ليس دفاعا عن
الغير ولكن دفاعا عن الدستور القرآني ودفعا للاستبداد ذاته. فقد لا يكون الاستبداد
الواقع على الغير ضارا بنفس المأمور بالقتال أو ماله، ومع ذلك عليه ان يقاتل من
أجل الا يقوم الاستبداد فقد لا يكون الاستبداد أصلا سواء لحق به ظلم أم لم يلحق
فإن لكل فرد مصلحة شخصية في ألا يقوم الاستبداد.
((وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل
لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا )) ـ (النساء: 75)
((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ)) ـ (الحجرات: 9).
لم يقل الى أن تفيء الى أمر الفئة الأخرى إذ ليس الأمر أمر فض منازعة ذات
طرفين ولكن قال الى أن تفيء الى أمر الله أي الى أن تلتزم قواعد الدستور القرآني،
لأن الأمر أمر سيادة قانون يرد الباغي الى طاعته ولو بالقوة وليس أمر سلام اجتماعي
بين الناس ولو على حساب الدستور القرآني.
الدكتور/ عصمت سيف الدولة ـ كتاب الاستبداد الديمقراطى 1980
الفصل الأول ـ الصفحات 34 ــ 36